المبالغات

 

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

حين نتساءل عن كيفية تكوُّن الثقافة العامة؛ فإن المراد هو الوصول إلى منبع تلك الثقافة، وأهمية الخوض في هذا الموضوع من أهمية بناء الشخصية الرزينة والقوية، الشخصية التي يمكن الاعتماد عليها، وهي ضمن سمات القائد الذي يمكن اختياره لتولي مناصب أعلى أو أكثر أهمية التي تدخل في شأن الأفراد، تلك الثقافة الثابتة أمام الوجوه والأجسام، الثقافة التي تحترم نفسها فيحترمها من حولها، الثقافة التي تتجسد في الأفعال قبل الأقوال، الأفعال التي تخدم المجتمع دون مقابل، وتسعى لتنمية مفهوم الشراكة المجتمعية والتعاون وزيادة الوعي، الثقافة البعيدة عن التشنجات والعصبية.

هدفي من هذا المقال بيان كمية المبالغات في حياتنا، ودورها في تكوين ثقافتنا وثقافة أبنائنا السلبية وبشكل أوسع ثقافة العقل الجمعي، هذه المبالغات كان لها دورها في تضليل المجتمع لتمجيد من لا يستحق وتعظيم ذوي البأس والقوة، وكذلك أصحاب المال، كان لكل هذه المبالغات سببها في وقت معين ومواقف بعينها ولكن تماشى معها المجتمع فأصبحت ثقافة رائجة.

المبالغة نوعان: نوع يتسم فيه المبالِغ الشعور بالرفعة والفخامة لذلك الشيء أو الشخصية، ونوع يتسم بالسخرية فيظهر غير ما يبطن، وحينما يشعر مسؤول ما أنه خارق وهو لا يفعل شيئا؛ فإنه يعتقد أن الانجذاب الزائد الذي يبديه الآخرون له ضمن حقوقه المشروعة، والمنتقدين أو أصحاب التعامل الأقل وتيرة ما هم سوى أعداء النجاح، ويقتنع أن الشجرة المثمرة التي تُرمى هو بعينه؛ فيبني على هذا الأمر العديد من القرارات المأساوية، وخرج من هذا المفهوم أقل المسؤولين عطاء وتأخرت الخدمات في دوائرهم تأخرا كبيرا، هذا جانب مهم. أما الجانب الآخر من المبالغات، فهي تبجيل الشخصيات دون رَدِّ الأشياء إلى منازلها، يختلط هنا مفهوم شيخ العلم وشيخ السن وشيخ القبيلة رغم اختلافاتها أو ارتباطها؛ فشيخ القبيلة سابقا يوصف بالعلم، العلم هو من يجعل له مكانة بين قومه، فيتم اختياره ليرأس القبيلة، أو فارسا مقداما، أو ورعا كريما، أو حكيما يصلح بين المتخاصمين فيلقى رضا الطرفين ويكوّن نفوذا منهم، تطورت هذه الصفة حتى أصبحت تمنح من أصحاب القرار نزولا مع الصبغة العامة، ورجوعا إلى تاريخ العائلة فيما لم يعد ينظر إلى الأشياء الأخرى، أصبحت وراثية على كل حال، هنا كثرت المبالغة في تبجيل وتمجيد الشخصيات المقصودة، لذلك نجد الفرق في مستويات الناس الاجتماعية رغم أن التنمية وتطورات المجتمع لا تعتمد كثيرا على هذه الفئة، لكنها متوغلة دون سلطة، مترسخة دون صلاحيات، هي الحليب منزوع الدسم.

أما الكفاءة فنسبية كنسبيتها بين أبناء المجتمع العام؛ لذا فإن إرجاع الأشياء لأصلها أمر في غاية الأهمية، والكف عن المبالغة ليس تقليلا من الاحترام وإنما هو سياق مهم لفهم الشخصية. معاملة الشخصية الند بالند تبين مدى نضجها وهويتها الحقيقية أما تمجيدها فلا تخلق سوى شخصيات خاوية منتفخة وأخرى تعيش على الهامش.

المبالغة في حياتنا ليس لها أصل، الأصل في تفهم الأشياء، في الاتزان، في الاحترام المتبادل، في التعاون والمشاركة وعدم الاستعلاء، هكذا نخلق مجتمعا ناضجا، راقيا ومتجددا، هكذا نبث روح التكاتف ونشعل جذوة التنافس الشريف بين أبناء المجتمع دون تفريط أو إفراط.

خلقت المبالغات أمراضا نفسية بين أفراد المجتمع هي الأكثر انتشارا وامتدادا كالمحيط، بل هي الأكثر تواجدا وأصبح المجتمع ينظر لها باحترام في انتكاسة حقيقية لقيمه ومبادئه؛ هذا الأمر ينذر بتفاقمها وتفشيها، والشخصية السيكوباتية التي تتلون بين موقف وآخر هي شخصية مريضة نفسيا لكنها المنتشرة بشكل كبير بين أفراد المجتمع.

المبالغات عُهر مجتمعي وهي رياء والرياء نوع من أنواع النفاق يجب محاربته ووضع الضوابط اللازمة لمنع انتشاره أكثر فيصيب قيم المجتمع بالشلل، المبالغة في كل شيء غير محبب، في سعر السلعة، في النظرة، في العصبية، في الحزن، في الفرح، وفي المدح والتمجيد، كل شيء هنا يبدو غير طبيعي وعلينا الحد منه ومن ثم إيقافه، وقيل قديما إن المبالغة تخفي وراءها جرم عظيم.

والحقيقة أن أصحاب الشأن هم وحدهم القادرون على إيقاف المبالغة، ممن يمتلكون الشخصية المتزنة والواعية التي تحب المصلحة العامة وترمي بثقلها لتعديل بعض السلوكيات والمبالغات، فصاحب المتجر يستطيع، والفرد العادي في المجتمع يستطيع وصاحب الرأي يستطيع، والمسؤول يستطيع، وحتى مشائخ الدين والقبيلة يستطيعون، الكل معني للمساهمة في إيقاف المبالغات.

أخلاق المسلم السوي هي كافية لسد فجوة التعامل الخشن والغليظ من البعض؛ فالدين القويم أذهلنا بحلمه وعطائه وكرمه وأذهلنا بصفات لو اعتنقت لكانت مسارا سالكا خيرا قويما، ولعل كمية التعاليم التي حملها ديننا في طرق التعامل مع الآخرين هي الأكثر تداولا وذكرا في دستور المسلمين عن الشعائر وبفارق كبير.

تعليق عبر الفيس بوك