منظومة الحماية الأخلاقية

 

 

د. صالح الفهدي

بطريقة ما، وعلى غرار منظومة الحماية الاجتماعية التي وفرت للفئات المستهدفة وفراً ماديًّا له أبعاده المختلفة، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو بعيد المدى، تأتي أهمية "منظومة الحماية الأخلاقية" كأساس لحماية المجتمع بجميع فئاته من إفساد الأخلاق التي باتت مستهدفةً بصورة واضحة للعيان، ولكلّ قاصد منها نيّته وغايته للنيل منها وتحطيمها، وإعادة تشكيلها.

وإذا كانت مصائر الأوطان مرهونةً بأخلاقها، فإنَّ الواجب أسمى لوضع "منظومة الحماية الأخلاقية" التي تستقي منهجها وأسسها من الدين الحنيف، والأعراف المجتمعية السديدة، فالأخلاق تشكّل أساساً للمجتمعات تقوم عليها، وتتقدّم بها إن كانت أخلاقاً حسنة، وتفسد وتتأخّر إن كانت أخلاقاً فاسدةً.

لقد شهدنا خراب مجتمعات أهملت منظومة الحماية الأخلاقية فهي آيلة للسقوط لأن المجتمعات لا تقوم على المشاريع المادية فحسب وإنما على الأخلاق، فهي عصمتها من الضياع والفساد حتى وإن ذاقت الفقر والعوز، أما إن أترفت بالمال، وأغدقت بثقافة الإستهلاك، وذاقت رغد العيش أو بحبوحته لكنها -في المقابل- افتقدت إلى عصمة الأخلاق فلن تستمرّ في معاشها، ولن تهنأ في مسيرها، وإنما تذوق طعم المرارة والخوف من جرّاء فقدان الأمان والطمأنينة والسعادة الناتجة من جرّاء تدهور الأخلاقيات في المجتمع، يقول سقراط: "التربية الخلقيّة أهمّ للإنسان من خبزه وثوبه".

وهكذا هي الحال اليوم في مجتمعات الغرب التي تهاوت فيها الأخلاق، فلم يعد لها من جبل يعصمها من أمواج التيارات العاتية التي ترمي إلى إغراقها بالدناءات لتستقرّ في القيعان، والسبب في ذلك فقدان الإله في حضارتها وإحلال رموز مضللّة بدله مثل التقدم والحريّة. أمّا الجبل الذي يعصم المجتمعات من الأمواج العاتية فهو الإيمان الذي يشكّل رافد الأخلاق.

وبعد أن تحرَّر إنسان الغرب من هيمنة الكنيسة، سعى ليتحرَّر من هيمنة المراقبة القانونية، فقد أعلن رفضه لكلّ كاميرا ترصد شوارع الأحياء لأنّها في ظنّه تنتهك حريّته! وقد كنت ضمن من سئلوا إبّان وجودي في المملكة المتحدة عن رأئي في هذه الكاميرات فكان رأئي مغايراً لآراء الأغلبية من الإنجليز؛ إذ رأيت أن وجودها لصالح الأحياء السكنية فهي تسهم في الكشف عن أدلة إن اقتحمت البيوت، أو تعرّض السكان لأيّة مضايقات، أو ارتكبت جريمة، وأضفت بأنها لم توضع داخل البيوت لتعتبر انتهاكاً للحريات!

بهذا، نرى أنَّ الإنسان إن تفلّت من ربقة الدّين، انحلّ من رباط الأخلاق، فيمضي في منزلقه إلى التمرّد على القانون الذي وضعته الدولة لحماية أخلاقياتها، وهكذا تنتقد بعض الدول من بعض الفئات الساقطة أخلاقياً لأن قوانينها تجرّم الإنحدار الأخلاقي، والسقوط في براثن الفساد العارم الذي تزكم رائحته الكريهة الأنوف!

فإذا استكانت الدولة لهذه الضغوطات، وجدت نفسها فريسةً في أيادي الساقطين أخلاقياً يملون عليها ما تسنّ من قوانين، وما تفرض من عقوبات لمن يقفون في وجه تبذّلها وتهتّكها الأخلاقي، فإذا أراد مرشّح ما أن يصل إلى منصب في الغرب فإن عليه أن يشهر دعمه للشاذين أخلاقياً وفطرياً، وإلا فلن يجد الدعم الذي يوصله إلى سدة المناصب. لقد هانت وذلّت بعض الدول في هذه الإستكانة والخضوع لهذه الفئات إلى درجة أنني رأيت منذ أيام في مدينة "ليفربول" بالمملكة المتحدة علم الشواذ يرفرف إلى جانب علم "بريطانيا العظمى" فوق مبنى مجلس المدينة City Council" وقد رخص العلم البريطاني في عيني، ذلك العلم الذي رفرف في بقاع الأرض لإمبراطورية استعمارية لم تكن تغيب عنها الشمس!

على أن هذا هو المصير الطبيعي لدولة لم تصن أخلاقياتها، ولم تعصم دينها، ولم تحافظ على أعرافها، إذ إنها حادت عن جوهر السياسة التي عناها المؤرخ ابن خلدون في قوله: "السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه".

هكذا على دولنا اليوم أن تؤسس "منظومة الحماية الأخلاقية" التي يفترض أن تكون سابقةً لما يعتور العالم اليوم من تيارات فاسدة، لكن الوقت ليس متأخراً للإعتناء بها، على أنّ الإعراض أو التقليل من أهمية "منظومة الحماية الأخلاقية" يعني الإنجراف التاريخي، وفقدان المصير، فالمنظومة ليست غطاءً وإنما هي السدّ المانع، والدرع الحصين، والقاعدة الصلبة للأخلاقيات.

لا نرجو من صنّاع القرار في دولنا تجاهل هذا الأمر؛ فالمبادرة إليه يجب أن تكون من أولى أولوياتهم إن أرادوا تحصين مجتمعاتهم، والحفاظ على هوياتهم الوطنية المستهدفة، فإن لم تكن هذه أولويتهم فما هي إذن؟!