23 يوليو يوم من أيام الكرامة العربية

 

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

الثورات عادة لا تقوم إلا حينما تجد الوصفات الجاهزة لاندلاعها ويتوفر المناخ المثالي لنجاحها، مع وجوب أن تكون الثورة مشروع، وثورة 23 يوليو 1952م لم يكن لها أن تقوم وتنجح لولا وجود ظروف محلية وعربية ودولية مواتية استدعت قيامها كضرورة وحتمية تاريخية، لا لتغيير واقع بائس فحسب، بل لإعادة الرُّشد والصواب على مسار التاريخ وواقع الجغرافيا في مصر ومن خلالها الوطن العربي والعالم الحر.

ليس من العقل أو المنطق محاكمة حدث تاريخي بحجم ثورة يوليو بمنطق وأدوات وظروف اليوم، بل بالعودة إلى زمنها وظروفها. فثورة يوليو 1952م قامت في زمن لم تكن فيه سوى بضعة أقطار عربية محدودة تتمتع بشيء من الاستقلال الشكلي، وهي: سورية والعراق ولبنان والسعودية واليمن وليبيا، بينما ترزح بقية الأقطار العربية تحت نير الاحتلال الغربي الإنجليزي/الفرنسي المباشر.

ومن هنا، كان على الثورة حمل بُعد عربي ثقيل تبعه حمل ثقل بُعد قاري وأممي لدعم حركات التحرر العربية والأفريقية وفي أمريكا اللاتينية، إضافة الى رسالة مصر في دعم التنمية في الأقطار العربية، وعلى رأسها رسالة قطاع التعليم عبر البعثات التعليمية المصرية المعروفة تاريخيًا.

ثورة يوليو أتت في زمن عربي استثنائي، حيث ترزح كل من مصر والسودان تحت الانتداب البريطاني، والذي انتهى باتفاقية الجلاء عام 1954م أي بعد قيام الثورة بعامين (وإعلان استقلال السودان عام 1956م)، وكان المرفق السيادي المصري المتمثل في قناة السويس نهب "مشروع" من قبل الإنجليز والفرنسيين، ورغم زيف وادعاء استقلال مصر، فقد كان يتواجد على أرض مصر 70 ألف جندي بريطاني رحلوا بعد اتفاقية الجلاء.

السودان في حقيقته كان يُعاني من استعمار بريطاني ظاهر للعيان، واحتلال مصري باطني ألحقه قسرًا بمصر، وكان ملوك مصر يحملون صفة "ملك مصر والسودان" وهو ما تنبه له الزعيم جمال في ثورته المجيدة، بحكم عمله في السودان ومعرفته العميقة بتركيبة الشخصية السودانية وثقافتها؛ حيث عمل على احترام رغبة ومسعى الشعب السوداني بالحصول على سيادة بلاده، وتقديرًا لنضال شعبه للتحرر والاستقلال من الغريب والقريب معًا. لهذا؛ كان الزعيم جمال عبدالناصر بمثابة الزعيم الروحي للسودان والحاكم غير المتوج في قلوب وحواس السودانيين.

وقد ترجم الشعب السوداني هذه المشاعر الجارفة للزعيم جمال في استقبالهم التاريخي له حين وفد إليهم لحضور مؤتمر الخرطوم الشهير عام 1967م، وهو ما عُرف بمؤتمر "اللآت الثلاثة"، والذي عُقد بُعيد معركة الخامس من يونيو من نفس العام، حيث رمم هذا الاستقبال الأسطوري نفسية الزعيم جمال من آثار تلك المؤامرة الدولية على مصر والوطن العربي، حيث كان الاستقبال بمثابة مبايعة للزعيم وتجديد عهد ورد جميل له على السودان والسودانيين.

لم تكن ثورة يوليو ثورة عابرة، كما لم يكن زعيمها شخصية طارئة، حيث بفلسفتها حملت كل هموم الوطن وأحلام المواطن وأعادت الروح المفقودة إلى جسد الأمة المُنهك من الاحتلالات والتغريب والاستباحة والإقطاع والطبقية.

لقد كان الزعيم ناصر من صنف الثوار والزعامات الطليعية التي تُشبه أوطانها وتلتصق عضويًّا بهموم الناس وآمالهم، لهذا أحبه الجميع ومن مختلف الفئات الرسمية والشعبية في الوطن العربي من أقصاه الى أقصاه.

لقد استوعب الزعيم جمال نواميس التاريخ وأحكام الجغرافيا، وتيقن أنَّ الصراع مع المستعمر والمحتل هو صراع إرادات أولًا ثم صراع سياسة وجيوش، لهذا كان يقينه عاليًا بالنصر المؤزر، وكانت حتمية الرهان على إرادة الشعب العربي سلاح ماض في يده، فهذا الشعب وقف معه وإلى جانبه حتى مقبض السيف، وما زال معه في سيرته وقدوته إلى ما لا نهاية، فجمال عبدالناصر وسيرته ثقافة عابرة للأجيال والجغرافيا، وهذا سر خلوده وبؤس خصومه وأعدائه.

وبالشكر تدوم النعم..،

----------------------

قبل اللقاء: أكبر مؤشر يُستنطق اليوم لمعرفة نجاح ثورة يوليو هو حجم العداء لها من قبل خصومها -المتضررين منها- من إقطاع ورجعيين ومتأسلمين والطابور الخامس للغرب الاستعماري، وهم الذين كانوا من الدواعي والمحرِّضين الأساسيين للظرف التاريخي لقيام الثورة بشعبيتها الطاغية وتأثيرها العابر للحدود والأجيال.