الكبح الأخلاقي.. نحو أنسنة التقانة

 

 

د. سليمان بن خليفة المعمري              

يقول أحدهم "لقد مكننا العلم من قدرات الآلهة، لكننا للأسف نستخدم هذه القدرات بعقلية الأطفال"، والحقيقة أن العلوم والابتكارات البشرية لطالما اتسمت بالثنائية المعروفة (الإيجابية والسلبية/ المنافع والمضار)، إلا أن أكثر ثنائية إثارة للجدل والحيرة الأخلاقية هي تلك الثنائية الناجمة عن المخترعات والصيحات التقنية المتلاحقة، ولعل السبب الأبرز لهذه الإشكالية هو اعتماد عقلية الأطفال تلك وغياب الوازع والحس الأخلاقي أو ضمور وتحييد الجوانب والقيم الإنسانية المشتركة وإطلاق العنان والانفلات من كل المعاني النبيلة السامية لهذه التطبيقات والبرامج والاختراعات التقنية والاعتماد على الربح والنظرة المادية القاصرة، وبقدر إعجابنا ودهشتنا لما حققته التقانة من استخدامات إيجابية جعلت البعض يعتبر عصر التكنولوجيا "العصر الذهبي" وخلقت واقعا "لليوتوبيا التكنولوجية"، وسهلت الكثير من مصالح الناس ووفرت جهودهم وأوقاتهم، وأسهمت في الكثير من التقدم الطبي والعلاجي ووسائل الاتصال والاستخدامات التجارية والتعليمية والتربوية والوظيفية والعمل "عن بعد"، وقربت المسافات، وسهلت القيام بالعديد من المهام المعقدة بـ"ضغطة زر"، وظهرت برامج الذكاء الاصطناعي والربوتات والبلوك تشين وغيرها مما أسهم بلا شك في الكثير من تقدم البشرية وتطورها.

إلا أن هذا الوجه المشرق الباسم لهذه التقنيات يقابله وجه آخر غاية في القتامة والسواد حيث أصبحت تثير الكثير من القلق والمخاوف والانتقادات لدى الدول والأفراد إلى حد جعل بعضهم يصفها بـ"تفاحة آدم الجديدة"؛ وذلك لما يترتب عن هذه التطورات من إساءة استخدام وانتهاك للخصوصية وفضح للأسرار حتى صرخ أحدهم قائلا "لقد انتزعت هذه الأجهزة اللعينة (الهواتف) سلامنا الداخلي، وجعلت من حياتنا الشخصية خرقة قماش ينشرها المراهقون على حبل الفضيحة متى شاؤوا"، إضافة للانتهاكات الأخلاقية الخطيرة وإيجاد تقنيات للحروب والدمار والإساءة للبيئة "التغير المناخي مثالا"، وطمس الهويات الوطنية والقيم القومية للشعوب والأمم؛ لذا وللحد من هذه الآثار فلا بد من الكبح الأخلاقي لأية اتجاهات سلبية في المشروعات التقنية، والتركيز على البعد الإنساني وإعلاء صوت الأخلاق والضمير عند وضع معايير ومبادئ تطوير التقانة، وإيجاد مدونات أخلاقية تلتزم بها الدول والمؤسسات، وتعزيز المسؤولية الجماعية والفردية تجاه الاستخدام الرشيد والآمن للتقانة، وعدم جعل التقانة هدفا "بأي ثمن"، حتى ولو كان أخلاقيا أو وطنيا، ولا بد من جهد إبداعي خلاق ورؤية مستقبلية تعي تحولات التقانة واتجاهاتها من أجل ترجيح كفة الأخلاق والقيم والمثل الإنسانية العليا على ما سواها، وجعل التقانة في خدمة الإنسان وسعادته وهنائه، وإلا فإن الاحتمالات ستكون مفتوحة على كل الانتهاكات والفضائح الأخلاقية والتي حتما سيدفع العالم ثمنا باهظا لتأثيراتها وتداعياتها الوخيمة على الإنسانية جمعاء.

وختاما.. يحضرني في هذا المقام مقولة بليغة لقاضٍ أمريكي قبل أن ينطق بالحكم في جريمة بشعة ارتكبها شاب أمريكي ضائع؛ حيث قال: "إن كل جريمة تبدو للآخرين بلا دوافع مفهومة، وراءها غالبا إنسان حرم في طفولته من الحب وإحساس الأمان في حياته العائلية"، فأضيف إليها أو أُعطِي هاتفا نقالا بلا توجيه أو توعية أو تربية أو إرشاد، إلا أنه علينا أن نتذكر على الدوام أنه بتضافر الجهود والسعي المبارك يمكن الاستفادة من جمال التقانة وتوظيفها واستثمار منافعها للصالح العام، وليكن معلوما لدينا أن الأفراد السيئين هم فقط بقع سوداء متناثرة في ثوب الطبيعة البشرية الخيّر، وكلنا ثقة في لطف الأقدار وأملنا كبير في النضج البشري والوعي الإنساني العام.

تعليق عبر الفيس بوك