"القرية العالقة" (الحلقة 4)

 

 

حمد الناصري

ارْتعد جسدهُ وأخذ ينتفض، تصاعدت دقات قلبه. وصُورة ذلك الرجل المُسجى لم تَغِب عن باله، يداه مَكتوفتان، وفمه مُكمّم، وصَوته محبوس، ورِجْلاه مَجرورتان في ثوب أبيض، رائحة غريبة تُزكّم الانوف، استقرّت في ذهنه، تماثلتْ أمامه صورة الرجل المُسجى، كأنه يُعايشها، انكسرت روحه وانقلبت أفكاره، تضايق.

تملّكته الدّهشة. كانت اللّيْلة شديدة الظّلْمة، شَنّكَ جِفْنيْه وتوسعتْ أطراف بُوزه.

رَعْشة نفضتْ جسده فاسْتفاق مُرتعداً. وقال مُوجهاً سؤاله إلى أمه:

ـ هل كان جدي عبد الرحمن مُهتماً بترسيخ القِيم ؟! وهل نجح في ترسيخها في مُجتمع القرية؟!

نظرتْ إلى عينيه نظْرةً شذرة، صَغرت حدقتا عينيها وانطوتْ أطرافها:

ـ.... "لم تُعلِّق بشيء".

أخفضتْ رأسها وأَرْخته إلى صَدرها، رفعته بطريقة تُوحي بانزعاجها:

ـ كنت يومئذ مَكلومة بزوجي، فقد انصرعَ بسبب القرية والناس لا يزالون مُتفرقين؟

وقد فعلَ عمّي عبدالرحمن ما في استطاعته، من أجل القرية والناس.

لوّحتْ برأسها يميناً وشمالاً:

ـ دعني أكْمل لك، عن القِيَم التي يُدافع عنها أبيك والمُرتبطة بالاعتزاز بما ورّثهُ الاجداد المادي وغير المادي.

فأبوك يقول الحق بكل عزم وهيبة.. وكان عبدالله ذا موقف صَلب، كثيراً ما يستنزف صَبره في القول والفِعْل.

ـ أليس من ثمار الإنسان عزيمته، وما آمنَ بها من قِيَم وأخلاق، تحوّلت بعد حين من الدّهر إلى عادات وتقاليد ثم تكوّنت إلى عادات وإلى أبعادٍ فلسفية، كانت مصدر مَبادئه ومعيشة.

ـ نعم بُني، القيَم كتاب مفتوح من الشِّيَم ولها علاقة بالتاريخ المشهود، والقِيَم هيَ حارسة الأخلاق الرزينة، وتلك جميعها من ثمار الانسان، وكلما التزم الانسان بأهمّيتها كانت الوسيلة الدافعة إلى نبذ الاستبداد.

سكتت.. ثم أكملت:

ـ ومن ضِمْن التزامنا بأبيك هو بيان مَشهد الجراّفة ومَصرع زوجي القاهر، وما ذلك إلاّ مشهد مُؤلم، يدلّ على استبداد لا ينفكّ عنه المسؤولين ولا يتوقفون، ما لم تكن هناك وقفة لرجال البلد قرينة استبدادهم المُريب.

ما أعرفه أن زوجي عبدالله يهتم بالقِيَم ويهتمّ بعلاقة الاخوّة ببعضها ويهتم بالعروبة والقومية. يُحب الخير للناس، تكاد الوطنية مُتجذّرة في داخله بكل روابطها الاجتماعية.. ولُقّب بـ عبدالله العُروبي أيّ الرجل الذي تشغله أمّته ومات مُتأثّراً بالخصاصة وقدّم أغلى ما يملك، روحه التي ذهبت من أجل القرية والناس، ذلك هو الإيثار الحقيقي وتلك هي التضحية في سبيل الوطن.

بقيتْ أم أحمد مَشْدودة العين نحو ابْنها تزرع كراهيّتهُ في المسؤولين، القائمين على المشروع البحري الكبير وتُرسّخ حِقده عليهم؛ وبذكاء وفطنة، أعادتْ مَشهد الجرّافة ومصرع أبيه، كمن يتلذّذ بمشهد دراميّ.

ـ لن تُجدي كُلّ القصص عن سيرة أبيك وبموته هُدمت موروثاتنا وأقْصِيت قِيَمنا ولن يُسعد قريتنا إلا رجلَ ذو عِزة يُدافع عن كرامة الامة وعزة المُجتمع.

صَبّ أحمد غضبه على المشروع وهزّ رأسه وضغط على بُوزه وكأنه يُريد أنْ يحدّثها عن فكرة تتصل بالمشروع، لكن أمّه استأنفتْ حديثها ولم تدعه يُفكّر:

- افْهم يا أحمد، مُلوّثات الدَسّ في الجُيوب وشبْع البُطون، أحالتهم إلى خناعة الرّجولة وعندها تكون النتيجة لا يُمكن أنْ تُطاق ولا يُسكتْ عنها!

قطع حديثها وقال:

ـ طيب أمي، سؤالي: أليس بالمشروع منافع للقرية والناس؟

ـ منافع جلبت الضّرر. ما الفائدة منها؟ لا فائدة يُرتجى من ضرر. قالوا قديماً " دريشة تجي منها الرّيح سِدّها وأستريح". !! كل المنافع عبارة عن فائدة، والفائدة ليستْ مَنفعة بل هي قيمة مُضافة على معايش الناس وعلى كسبهم ولا يزالون يكدحون لسدّ رمق عيشهم، وإني لأظنها، استخفاف بعقول الناس.

سكتتْ قليلاً... ثم أخذت تنظر إلى أفق مَغيب الشمس الزاهي بلونه الجميل وتنهدتْ بعمق، وقالت:

ـ بُني، أنت اليوم، لا أبَ لك وغداً لا أمّ لك! ولكنّ القرية تبقى دفءُ في أعماقك!

أجابها بحزن:

- .... نعم أمي؛ وبقيَ صامتاً. لم يُحدّثها بشيء.

ثمّة غَيْمة نحيلة أحجبتْ ضوء الشمس السّاقط إلى أعماق الارض، بلون برتقالي عجيب.

يتبع.... 5.

تعليق عبر الفيس بوك