اقتصاد المعرفة. . نحو تنمية مستدامة شاملة (2-5)

 

 

 

الدكتور/ إبراهيم بن عبدالله الرحبي *

Ibrahim1alrahbi@gmail. com

 

رؤية "عمان 2040" نموذجا

تطرَّقنا في المقال السابق إلى اقتصاد المعرفة وتعريفه، وتدرج نشأته ومحاولة ربط رؤية "عمان 2040" به من خلال ممكنات الرؤية. وسوف نحاول في هذا المقال التعمق أكثر في العناصر الأساسية والأدلة التجريبية لهذا الاقتصاد من خلال التركيز على عوامل نجاح محركات وممكنات اقتصاد المعرفة التي طبقت عمليا وأتت ثمارها للدول التي تبنتها وأصبحت مثالا يحتذى بها في هذا المجال.

لا يزال اقتصاد المعرفة ظاهرة متجددة، ومما يميز ثورة المعرفة والمعلومات أنه للمرة الأولى في تاريخ البشرية، أن الموارد الاقتصادية الأساسية لم تعد كالموارد الطبيعية ورأس المال والعمالة مصدرا أساسيا للإنتاج وفقاً لاصطلاح خبراء الاقتصاد. إنها المعرفة كقيمة وميزة تنافسية، والتي يتم إيجادها الآن من خلال الإنتاجية والابتكار كتطبيقات معرفية جديدة للعمل.

ويبدو أنَّ الدراسات تدعم هذا التحول في التنمية الاقتصادية، فإلى العام 1910، كان أغلب العاملين في الاقتصادات المتقدمة يعملون 3000 ساعة في العام، أما الآن، وبفضل كفاءة استخدام المعارف الجديدة، فإنَّ العمال في بلدان مثل اليابان يعملون 2000 ساعة في العام، والولايات المتحدة 1850 ساعة في العام، وألمانيا 1600 في العام. ورغم ذلك فإن العمال اليوم ينتجون 50 في المائة أكثر مقارنة بما كان عليه الأمر قبل 80 عاما. ويبدو هذا جليا أيضا في الأرقام التي تظهر الإنتاج المباشر للعاملين في صناعة الأشياء ونقلها، والتي بلغت تسعة من أصل عشرة خلال الثمانيات من القرن التاسع عشر، ثم تقلصت إلى خمسة من أصل عشرة في التسعينات من القرن العشرين، ويعتقد أنها تقلصت أكثر وصولا إلى واحد فقط من أصل عشرة بحلول عام 2020م. والأهم من ذلك والأكثر وضوحا كان مؤشر النمو الحاد في عدد براءات الاختراع المسجلة في السنوات الأخيرة؛ حيث تشير أرقام المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) إلى أنه في حين استغرق الأمر 18 عاما منذ عام 1978 لتصل مجموع طلبات براءة الاختراع إلى ربع مليون طلب، فقد استغرق أربع سنوات فقط لمضاعفة هذا الرقم إلى نصف مليون، وأربع سنوات أخرى لمضاعفته مرة أخرى إلى مليون.

وليس أدل على هذا التحول الاقتصادي من أن جميع اقتصادات منظمة التعاون والتنمية اتجهت نحو اقتصاد المعرفة رغم أن وتيرة التطور والنمو قد تختلف فيما بينها. وما الأهمية المتزايدة لتجارة الخدمات المعرفية المكثفة في مجالات مثل التمويل والتأمين والخدمات الاستشارية، والتعليم والرعاية الصحية إلا نماذج واقعية ماثلة للعيان. كما أن الشواهد التجريبية تدل بوضوح على أنَّ هذه القطاعات آخذة في النمو، وتلعب دورا مهمًّا في انتشار صناعة المعرفة. وفي الواقع كان هناك نمو قوي في أوروبا والولايات المتحدة في مساهمة قطاع الخدمات، وتظهر الإحصاءات أن 78 في المائة من الأنشطة الاقتصادية في بلدان منظمة التعاون والتنمية وفي بعض الاقتصادات سريعة النمو بأنها خدمات مبنية على المعرفة؛ مما يشير إلى وجود تغيير حقيقي في مساهمة هذا القطاع في الأنشطة الاقتصادية.

وتتوافق معظم الآراء على الاتجاهات والعوامل التي ساعدت على نمو الاقتصاد القائم على المعرفة والتي يمكن إيجازها:

* التقدم التكنولوجي المتسارع ولا سيما في مجال الاتصالات، والحوسبة، والنقل وتبادل المعلومات.

* العولمة الاقتصادية، التي تتطلب من الدول والشركات على حد سواء الاندماج في الاقتصاد العالمي لتصبح أكثر ابتكارا، وتكيفاً مع الوضع الجديد.

* الأهمية المتزايدة للمعرفة المتخصصة كأداة للتعامل مع الاتجاه الجديد للعولمة.

* التحول في الوعي العام بأن المعرفة أصبحت عاملا فاعلاً وحاسماً في الإنتاج أكثر من أي من عوامل الإنتاج التقليدية الأخرى.

* المؤشرات والتجارب الدولية المختلفة التي تجزم بأن اقتصاد المعرفة أصبح خيارا ممكنا لنمو اقتصادي مستدام، إلى جانب إيجاد فرص وظيفية جديدة حقيقية وجاذبة خاصة لفئة الشباب.

وكما أشرنا في المقال السابق، فإن قياس مؤشرات اقتصاد المعرفة ليست مسألة بسيطة؛ إذ تختلف من دولة إلى أخرى وفق تقدمها في المحركات الأساسية، كما أنها تنطوي على تغييرات في جوانب كثيرة من الاقتصاد. وفي هذا الصدد، قدم معهد البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية وبعض مؤسسات الفكر والرأي العالمية المتخصصة العديد من الأطر العملية والمؤشرات التي توفر مجتمعة إرشادات في هذا الشأن. وبما أن الغرض الحقيقي من قياس الاقتصاد القائم على المعرفة هو تقييم التقدم المنجز في اقتصاد معين (زمنيا) أو منطقة معينة (مكانيا)، فإن هذه الأطر والمؤشرات تعد بمثابة معايير ذات فائدة في المقارنة بدلا من المقاييس المطلقة وهو ما نراه جليا في مؤشرات ممكنات رؤية عمان 2040.

وبفضل الدراسات التجريبية في الميدان الاقتصادي في الكثير من الدول التي تتشابه في مكوناتها الاقتصادية التقليدية مع سلطنة عمان وحققت نموا اقتصاديا مذهلا خلال السنوات العشرين الماضية كماليزيا وتشيلي وفنلندا على سبيل المثال، فإنه يمكن تحديد المرتكزات والممكنات الأربعة الرئيسية التالية لتكون منطلقا نحو تنمية شاملة ومستدامة:

1- المؤسسات الحكومية الفعالة والحوافز الاقتصادية التي تسهل وتشجع على توفير الكفاءة وامتلاك المعرفة ونشرها واستخدامها.

2- نظام التعليم والتدريب الذي ينتج قوى عاملة منتجة ومبتكرة.

3- البنية الأساسية المتقدمة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات للاستفادة منها في إيجاد المعارف ونشرها واستخدامها على النحو الأمثل.

4- البحث العلمي والتطوير الذي ينتج تفاعلا ديناميكيا بين العلم والتكنولوجيا المحلية، والقطاع الخاص المحلي، للمساهمة في تعزيز نمو المخزون المعرفي المحلي والعالمي.

ويأتي اختيار هذه الممكنات الأربعة الرئيسية بناء على دورها الحيوي في تكوين المعرفة ونشرها وحفظها واستخدامها. وتؤكد الدراسات التطبيقية التي أجرتها منظمة التعاون والتنمية ومعهد البنك الدولي أن نهج التنمية الشاملة والمتوازي لهذه المرتكزات الأربعة ضروري للحصول على النتائج المرجوة. وهو ما سوف نعرج عليه بنوع من التفصيل في المقال القادم من هذه السلسلة عن اقتصاد المعرفة.

 

* متخصص في اقتصاد المعرفة

 

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك