مدينة السلطان هيثم.. الأنسنة والذكاء

 

 

د. صالح الفهدي

يصف يان جيل في كتابه "مدن للناس" المدن المفعمة بالحياة بأنها تبعث "إشارات مليئة بالترحيب والمودة ودلالات تبشر بالتواصل الاجتماعي بين الناس؛ حيث إنَّ تواجد الناس الآخرين في حد ذاته يبعث برسالة مفادها أنَّها مكان يستحق الجلوس به وزيارته" (ص:73)، وقد تأسست مدينة السلطان هيثم على هذا المنهاج المرتكز على الأنسنة المبنية على تحقيق مفهومي "الالتقاء والاتصال"؛ الأمر الذي يجعل المدينة فضاءً عمرانياً يعتني بالإنسانيات في تصاميمه وساحاته وميادينه وحدائقه ومتنزهاته ومماشيه ومرافقه المختلفة، بصورة تُراعي عدم طغيان الماديات على الإنسانيات بل تحقق التجانس والتناغم بين الاثنين ليكونا صديقيْن تربطهما علاقة ثرية.

هذا الأمر ينطلق مما سمَّاه ابن خلدون "مقتضى الأخلاق والحكمة" في قوله: "السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه"، وعلى إثر ذلك تُصبح المدينة أليفةً للإنسان، وفضاءً مريحاً، ومضيافاً له، فإن ألفها الإنسان لم تصبح المدينة مجرد سكنٍ يأويه وحسب، بل إنَّها تُصبح طابعَ حياةٍ، ونمط معيشةٍ، يتلاقى معها في جمالياتها، وأناقتها، وذكائها، وحسن تنظيمها، ورقيها، كما أنه يفهم رسائلها التي تدعوه إلى الاستمتاع بطبيعتها، والاستفادة من خدماتها من أجل صحةٍ أفضل، وحياةٍ أكثر تنظيماً ورقيًّا.

لا شك أنَّ المعمار في مدينة السلطان هيثم يتعدَّى فكرة الاستيعاب السكاني الذي يصل إلى عشرين ألف وحدة سكنية ومائة ألف ساكن، ليكون فضاءً مُلهِماً، مُحفزاً لرؤية مشرقة نحو بناء المستقبل، مصدره بيئة صحية مستدامة منتظمة، ذات تناسقٍ بديعٍ، وألوانٍ رائقةٍ، ومناظر متناسقة، في كل زاويةٍ وركنٍ وفضاء.

لقد رَاعى المُصمِّمون للمدينة -كما هو واضح من مُجسَّمها- الانسجام البصري القائم على التناسق في الارتفاعات، والتصاميم الشكلية للمباني؛ من أجل تحقيق مفهوم "الأنسنة" التي تحقق للإنسان الإلفة والراحة والإلهام، تقول الكاتبة الأمريكية (Jane Jacobs): "المدن التي لديها القدرة على توفير شيء للجميع، هي التي تم إنشاؤها من قبل الجميع" وهو ما يعني أنه كلما أسست المدن على مقتضى إنساني أنشأت علاقة قائمة على المنفعة والحاجة بينها والساكنين فيها، وعمقت الإحساس الإنساني بالانتماء إليها.

مُهمَّة المصممين المعماريين اليوم أصبحت شاقة مع متعتها؛ لأنها مهمة تراعي جوانب ثقافية ونفسية واجتماعية فتصبها في تصميمها المتوازن ليخرج للناس على شكل مدينة أنيقة، أليفة، ذكية، يقول المفكر والمهندس المعماري الهولندي "ريم كولهاس": "تقف العمارة على ساقين؛ أحداهما في عالم عمره أكثر من 3000 عام، والأخرى في القرن الواحد والعشرين، هذا يجعل مهنتنا كمعماريين عميقة بشكل عجيب".

وإذا كُنا نشهد ثورة الذكاء الاصطناعي (AI)، فإن تصميم المدن الذكية المستدامة أصبح أمراً لا يمكن تجاوزه، من أجل تأسيس بنية تحتية للاتصالات المستقرة؛ من أجل دعم الخدمات القائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وإنترنت الأشياء (IoT).

وبهذا يتحقَّق المفهوم الثاني "الذكاء" بعد مفهوم "الأنسنة" لمدينة السلطان هيثم، وهي مدينة نموذجية تراعي ما توصل إليه العلم الحديث في بناء المدن المستدامة ذات البيئات الجاذبة للإقامة فيها بما تشمله من عناصر عصرية، تعد استخلاصاً للتجارب، والخبرات الإنسانية في مجال المعمار.

إنَّ مشاريع كمدينة السلطان هيثم تعدُّ نقلة مُتفردة في مسيرة الوطن، فهي تمنح المرحلة التاريخية ملمحاً متميزاً ليكون أنموذجاً تقاس على إثره الإنجازات القادمة.