كُتاب عُمانيون في مجلة "صوت البحرين" (1954-1951م)

 

 

ناصر أبوعون

في مهبِّ الريح العاتية التي تعصف بالثوابت، وتُهيل ركام النسيان على الأعلام العُمانيين الأوائل، الذين قادوا المسيرة الاستنهاضية، وأسهموا في بعث الأمة من سُباتها الطويل، وشكّلوا تيارًا تنويريا حرث تُربة الركود، التي دأب المستعمرون على تزخيم عوامل بوارها، وتثبيط هِمّتها لنهب ثرواتها، واستنزاف مقدراتها.

خرج أربعة من الروَّاد يحملون إرثَ التاريخ العماني التليد، وشعلة التنوير التي تتناقلها الأجيال منذ آلاف السنين إلى البحرين، وهناك تعارفوا، وتآلفوا، وتحلّقوا حول مائدة الصحافة، وامتلكوا ناصية القلم، وكل واحدٌ منهم برع في فن من فنون الأدبة والفكر وشتلوا بذرة الحداثة على ضفاف الخليج، التي استطالت فروعا باسقة، ونضجت ثمارا يانعة أثرت المشهد الإبداعي على امتداد جغرافية الخليج وشبه الجزيرة العربية.

2.jfif
 

ومن هذا المنطلق سنستعرض "كُتّاب عُمانيون في مجلة صوت البحرين" للكاتب البحريني "حسن مدن" الذي عمل بدائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية من بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات؛ منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود"، وآخرها هذا الكتاب الذي بين أيدينا وهو من مطبوعات النادي الثقافي ومن مطبوعات وزارة الإعلام.

لماذا مجلة صوت البحرين؟

لقد وقع اختيار الروّاد العمانيين في خمسينات القرن العشرين على مجلة "صوت البحرين" ليطلّوا من صفحاتها على الثقافة العربيّة، ويفتحوا من خلالها أفقا جديدا يُسهم في تنوير حواضر الخليج؛ ولأنها كانت نموذجا جيدا على ما أدّته الصحافة من دور في مجال نشر الوعي السياسيّ والثقافي والوطنيّ في تلك الفترة من تاريخ منطقة الخليج؛ فقد كانت هذه المجلة أول دوريّة ثقافية جامعة في البحرين، أفلحت في أن تضفي البعد الثقافيّ على العمل الوطنيّ، وأن تحقق لنفسها وللبحرين صيتا عربيا لدى النّخب الثقافية والفكرية، يلمسه من يعود إلى أعداد المجلة التي استقطبت أقلاما مهمة من مشرق العالم العربيّ ومغربه نشروا على صفحاتها مقالاتهم وأشعارهم وتحاوروا مع نظرائهم في البحرين حول ما كانت المجلة تنشره من مواد.

1.png
 

وهذا البُعد العربيّ للمجلة لم يكن منفصلا عن المنطلق الوطنيّ لها وللقائمين عليها إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أنهم جميعا كانوا من قادة العمل الوطنيّ في البلاد -يومذاك- وأنهم سيصبحون بعد حين لن يطول أبرز وجوه هيئة الاتحاد الوطنيّ التي قادت التحرك الوطنيّ ضد سلطات الاحتلال البريطانيّ. وهؤلاء النفر؛ هم: عبدالله الطائي الذي انتقل من كراتشي ليقيم في البحرين، أمّا زملاؤه الثلاثة الآخرون؛ فهم: أحمد محمد الجمالي، ومحمد أمين بن عبدالله البستكي وحسين حيدر درويش، فقد كانوا مقيمين في كراتشي للعمل والدراسة.

وجدير بالملاحظة أن يكون هؤلاء الأربعة القادة مع هيئة تحرير المجلة حسن جواد الجشي وعبدالعزيز سعد الشملان وعلي التاجر وعبدالرحمن الباقر ومديرها المسؤول إبراهيم حسن كمال، وسكرتير تحريرها محمود المرديّ على تلك الدرجة من الثقافة والمعرفة ومن الاهتمام بالشأن الثقافي في بلدهم وفي محيطهم العربيّ، مما يلفتنا إلى ارتباط العمل الوطني الحديث في عمق وقوة وشائجه بتجليات هذه الفكرة على الصعيد العربيّ. وطبيعيّ أن يكون أدباء الخليج ومثقفيه قد وجدوا في مجلة صوت البحرين المنبر المناسب للتعبير عن أفكارهم.

 

الاتحاد العُماني في باكستان

لقد كانتْ باكستان في تلك الفترة تتمتع بحريّة الكتابة وحرية الفكر، فقد كانت جميع الكتب السياسية والعقائدية بمختلف اتجاهاتها متوفرة في المكتبات، وكانت مؤلفات مكسيم غوركي وكارل ماركس المطبوعة في الاتحاد السوفيتي باللغة الإنجليزية تُباع في المكتبات، بل وفي الشوارع، شأنها في ذلك شأن الكتب والمؤلفات الأمريكية، وكان الوضع يبدو وكأنه منافسة مكشوفة لترويج الأفكار والمبادئ بأخس الأثمان المادية. وكان العمانيون الثلاثة: أحمد محمد الجمالي، ومحمد أمين بن عبدالله البستكي وحسين حيدر درويش يقيمون أمسية دورية في مقهى "شيزان" بقلب مدينة كراتشي، ويتحلّقون حول طاولة مخصصة لهم، وتدور أحاديثهم حول ما يُذاع أو ينشر عن بلدان الخليج، والمطامع الاستعمارية والأخطار التي تُحاك ضد الخليج، وكان هذا هو حال معظم الشباب في تلك الفترة من العمر يتطلع إلى مستقبل أفضل لوطنه، ويحمل آمالا جسيمة لا حدود لها من الطموحات والأمنيات الوطنية. وكان عبدالله الطائي بحكم إقامته في البحرين حلقة الوصل بين "صوت البحرين" وزملائه الثلاثة، وسهّل لهم نشر مقالاتهم الدورية فيها.

وفي هذه اللقاءات تبلورت لدى العمانيين الثلاثة فكرة تأسيس كيان أطلقوا عليه "الاتحاد العماني"، وقد ذكر حسين حيدر درويش أنه وبعد مداولات طويلة بينهم استغرقت عدة أشهر تبلورت خلالها الأفكار وتمخضت عن اتخاذ قرار في أوائل 1952 بتنظيم رابطة تجمع العمانيين، وقد حددوا لها هدفين في بادئ الأمر:

أولا: نشر الوعي الوطني بين العمانيين سيما النازحين عن وطنهم في طلب المعيشة في مختلف أقطار الخليج والذين يبلغ تعدادهم عشرات الألوف.

ثانيا: إفساح المجال للطلاب الذين أكملوا دراساتهم في المدرسة السعيدية وهي الابتدائية الوحيدة في القطر العماني كله، وترحيلهم إلى خارج عمان كي يواصلوا الدراسة.

وعهدوا إلى زميلهم أحمد محمد الجمالي بإعداد "ميثاق" الاتحاد العماني، وكان أول ميثاق كتبه بخط يده عام 1953 قبل إدخال أية تعديلات عليه فيما بعد. وعلى الرغم من إشارة حسين حيدر درويش إلى "تجاوب المواطنين العمانيين وحماسهم في عمان وخارجه للاتحاد العمانيّ، إلا أنه لاقى معارضة من بعض الفئات، وكان أحد المعترضين زميلهم عبدالله الطائي، الذي لم يعترض على فكرة تأسيس كيان "الاتحاد العماني" نفسه، وإنما تركّزت معارضته حول بعض التفاصيل: "والسُّبل التنفيذية".

 

أفكار المقالات العُمانية

مع استعراض مقالات الكتاب العمانيين الأربعة في مجلة "صوت البحرين" والصحف الأخرى بعد توقف المجلة يُلاحظ أنها تنوّعت بين الأدب والفكر وقراءة التحولات الدولية في منتصف القرن العشرين، كما هو شأن مقالات كل من أحمد الجمالي ومحمد البستكي، أو صورة الآخر الأوربيّ كما فعل حسين حيدر درويش في سلسلة مقالاته عن بلدان القارة الأوروبيّة بعنوان: "أوروبا كما رأيتها"، كما أن بعضها عني بالشأن السياسيّ في منطقة الخليج يومها، ومن ذلك ما طرحه حسين درويش في مقالين له: أولهما عن النفط وآثاره في بلدان المنطقة، والثاني عن الدعوة لقيام اتحاد بين دول الخليج.

ويلاحظ باستثناء مقال لعبدالله الطائي نُشر في العدد الثامن من المجلة الصادر في شعبان 1370 هجرية، جاءت كمشاركة منه في سجالات دارت على صفحات المجلة حول جدل العلاقة بين الغرب والثقافة العربية، فإنّ أعداد السنة الأولى من مجلة "صوت البحرين"، خلت من مساهمات الكتاب العُمانيين، التي لم تبدأ إلا في السنة التالية من صدور المجلة. وقد واصلوا نشر مقالاتهم في صحف البحرين وخاصة صحيفة "الوطن" على نحو ما كان من حسين حيدر درويش الذي كان يكتب تحت اسم مستعار بتوقيع (ع) تفاديا لعين الرقيب الذي يمثل سلطات الحماية البريطانية، والذي قام بالفعل، وعلى سبيل المثال، بحذف فقرة من مقال درويش المعنون بـ"مقارنة بين الشرق والغرب".

 

عبدالله الطائي ناقد بأفق خليجيَ

كان عبدالله الطائي من أبرز رواد النقد الأدبي في الخليج بما أولاه من عناية لتتبع جديد الأدب في موطنه وفي الجزيرة العربية عامة، وتسليط الضوء عليه بقدر كبير من التفصيل، وقد تمت مقارنته بنظرائه في تلك المرحلة بأفقه الشامل البانوراميّ للمشهد الشعريّ في إقليم الخليج والجزيرة العربية على ما نعلم من اتساعه الجغرافيّ وتنوّعه الاجتماعيّ وتعدد مصادر تأثره، ومظاهر تأثيره، انطلاقا من تتبعه لسير من تناولهم من شعراء، وأوضح أنّ كل شاعر انكبّ على دراسة إبداعه كان نتاج تكوين جغرافيّ وثقافيّ ومجتمعي مختلف، في المولد والتنشئة والتكوين التعليميّ والثقافيّ والخبرة الحياتيّة، وآثار كل ذلك على تجربته كشاعر.

وكان ما يُميِّز مقالاته شموليتها؛ فهي تغطي خريطة واسعة تمتد من البحرين لتشمل الكويت والسعودية والإمارات واليمن وسلطنة عمان، وما حدانا لأن نصف كاتبها بأنه الناقد ذو الأفق الخليجيّ فهو لم يكتف بدراسة نصوص كُتاب وطنه عمان، ولا البلد الذي كان يعيش فيه، وإنما شمل في تلك المقالات قائمة كبيرة من شعراء الجزيرة العربية، والخليج، وتضمنت أكثر من عشرة شعراء من مختلف البلدان.

وقد أظهرت المقالات المهارات الكتابية التي كان عليها الطائي، ورغم أنَّ الطابع الوصفي احتل  حيزا كبيرا في تلك المقالات، خاصة بالنظر إلى ما يملكه الكاتب من تمكّن لغويّ، وما تتسم به كتابته من جزالة الألفاظ والتراكيب، ورشاقة العبارات، إلا أن النقد حاضر بقوة في تلك المقالات، سواء في بسط النصوص ومضامينها والسعي لتحليلها وكشف دلالاتها، وفي تصنيف موضوعاتها إن كانت ذات أبعاد وطنية وقومية ومجتمعية، او كانت عاطفية ووجدانية أو إبداء ملاحظات عليها.

 

حسين حيدر درويش وأدب الرحلات

درس حسين حيدر درويش في المدرسة السعيدية، ثم انتقل إلى بغداد وأنهى دراسته الثانوية، ثم انتقل إلى كراتشي والتحق بجامعتها ودرس الاقتصاد السياسيّ، وكان من أوائل الطلبة العمانيين الذين أنهوا دراستهم الجامعية، وهناك التقى بمحمد أمين البستكي الذي سبقه في الالتحاق بجامعة كراتشي وعمل بوزارة الإعلام الباكستانية مختصا بالترجمة من الإنجليزية إلى العربية.

أصبح حسين درويش شريكا في تأسيس "الاتحاد العماني" وقد اختير رئيسا له كما ذكر في كتابه "مناضل من عمان"، وكان أول من نادى بقيام اتحاد سياسي يجمع دول منطقة الخليج كلها وينضم تحت لواء جامعة الدول العربية. وقد عاش حسين درويش في عدة بلدان خليجية من بينها البحرين، وعُرضت عليه بعض المناصب الإدارية بعد تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم، إلا أنه آثر التفرغ لأعماله التجارية في دُبيّ التي عاش فيها حتى وفاته ودُفن فيها، ومازال أبناؤه وبناته مقيمين هناك.

وبالإضافة إلى كتابه "مناضل من عُمان" عن سيرة زميله محمد أمين البستكي، صدر لحسين حيدر درويش كتاب "عصر الظلمات" الذي جمع فيه عددا كبيرا من مقالاته التي نشرها في صحف مختلفة، بينها أسبوعية "الأزمنة العربيّة"، وصحيفة "الخليج"، في دولة الإمارات، وقبلهما في "صوت البحرين" و"الوطن"، و"صدى الأهالي" العراقية.

ويمكن إدراج ما كتبه حسين حيدر درويش على صفحات "صوت البحرين" وعلى عدد كبير من الحلقات، في خانة "أدب الرحلات"، فجل مقالاته نُشرت تحت عنوان: "أوروبا كما رأيتها"، ويبدو لنا أن محتوى مقالاته أقرب إلى الرؤية التي ترى الغرب بتناقضاته المختلفة؛ فالسياسات الاستعمارية لهذا الغرب يجب ألا تحملنا على اعتبار أن كل مَن وما في الغرب عدوٌّ لنا أو ضار بثقافتنا.

 

البستكي رائد الترجمة خليجيًّا

محمد أمين البستكي من مواليد مسقط 1915، وتعود أصول أسرته إلى مدينة "بستك" بمحافظة "هرمزكان" جنوب فارس العربيّ الذي كان تحت إدارة الإمبراطورية العُمانية الممتدة من سواحل شرق إفريقيا حتى سواحل بندر عباس، ونظرا لثقافته الرفيعة التحق بالمحكمة العدلية بمسقط، ثم انتقل للعمل لدى القنصلية البريطانية في مسقط، ودخل في خلاف مع القنصل البريطانيّ فتركها إلى كراتشي تفاديا لاحتمال انتقام البريطانيين منه. وقد وصفه حسين حيدر درويش بأنه كان الأغزر ثقافة والأوسع معرفةً والأعمق فكرا، وقد يسرت له وظيفته بقسم الترجمة في وزارة الإعلام الباكستانية مساحة واسعة للاطلاع والثقافة.

ثمَّ كان كثير التردد على القاهرة لعقد اجتماعات "الاتحاد العماني" ثم استقر فيها منذ 1956، وكثّف نشاطه السياسي بالمشاركة في إصدار صحيفة "صوت عمان" التي كان مديرا لتحريرها، وبخطاباته السياسية من خلال إذاعة "صوت العرب" عبر فيها عن آرائه السياسية حول حركات التحرير ومناهضة الاستعمار، إضافة إلى مقالاته في الصحف المصرية "الأخبار"، و"الأهرام"، و"روزاليوسف"، و"الهلال"، كما عمل في مكتب إمامة عمان بالقاهرة.

ترجم البستكي أكثر من 22 كتابا، وحين عاد إلى عُمان عام 1974 عمل مديرا لدائرة المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام، ثم انتقل إلى وزارة التراث القومي والثقافة، متفرغا للترجمة، وكانت من أولوياته في الترجمة التركيز على كتب المستشرقين والرحال الغربيين عن عمان والخليج العربيّ، ومن الكتب التتي نشرتها له وزارة التراث: "عمان المجهولة" لـ(ويندل فيلبس)، و"ظفار لم تعد أرضا ملتهبة" لـ(رادولف فينيس)، و"الأفلاج ووسائل الري في عُمان" لـ(ويلكلسون)، و"رحلة طبيب في الجزيرة العربية" لـ(يول ويليرفورس هاريسون)، و"بلاد العرب السعيدة" لـ(بيرترام سيدني توماس). ما جعل منه واحدا من أهم روّاد الترجمة خليجيا.

 

أحمد الجمالي

كان أحمد الجمالي ضمن البعثة التعليمية الأولى من طلاب المدرسة السعيدية في مسقط التي أُرسِلت إلى بغداد لمواصلة تعليمها، في عهد السلطان سعيد بن تيمور عام 1939، بإشراف الشيخ أحمد بن سعيد الكندي، وكان من أفراد البعثة عبدالله الطائي، والسيد فهر بن تيمور، والسيد ثويني بن شهاب، والسيد فيصل بن علي وحفيظ الغساني، لإكمال دراستهم الثانوية هناك، وبعد عودته إلى مسقط عمل معلما بالمدرسة السعيدية في الفترة (1942-1948).

ثم هاجر مع عبدالله الطائي إلى باكستان؛ حيث عَمِلا سويا في القسم العربي بالإذاعة هناك ومدرسين للغة العربية والتاريخ الإسلامي في جامعة كراتشي، ثم عملا في وزارة الإرشاد والأنباء -الإعلام حاليا- الكويتية، ثم انتقلا سويا إلى أبوظبي 1968 وتولى الجمالي إدارة تليفزيون أبوظبي ثم عاد إلى عُمان مع تولي السلطان قابوس الحكم وعُين وكيلا لوزارة المعارف 1972، ثم نائبا للمندوب الدائم لسلطنة عمان في الأمم المتحدة، ثم سفيرا في فرنسا وبعدها إيطاليا ثم تقاعد.

ومن مقالاته في مجلة صوت البحرين: "هل أدبنا العربيّ تقدميّ؟"، و"الصراع المذهبي بين الرأسمالية والاشتراكية"، و"ثورة الزنج وأثرها على المجتمع"، و"معالم اليقظة الشعبية لدى الجماهير العربية".

 

كلمة أخيرة

إذا كان الجزء الأكبر من مقالات عبدالله الطائي في مجلة "صوت البحرين" انصبَّ على نقد النصوص الشعرية، والجزء الأكبر من مقالات حسين حيدر درويش انصبَّ على رحلته إلى أوروبا، نجد أنَّ مقالات كلٍّ من: محمد أمين البستكي وأحمد محمد الجمالي نَحَتْ منحى فكريا، ينم عن متابعة جيدة لمستجدات الوضع الدوليّ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وما ترتب عليها من معطيات رغم أنه لم يكن للحرب نفسها مقام كبير في تلك المقالات.

وسنجد أن مقالات الرجلين -أو الجزء الأكبر منها- تدور حول ما طرحه عالم ما بعد الحرب، إنّ لجهة نشوء معسكرين دوليين كل واحد منهما يتبنى رؤية وفلسفة نقيضة للآخر، إحداهما رأسمالية والثانية اشتراكية، وهو ما اعتنى الكاتبان بإبرازه، عاقدين المقارنة بين ما يحسبانه إيجابيات وسلبيات كلّ نظام منهما، دون أن يكون خافيا على القارئ النبيه ملاحظة أنهما أميل إلى تبني رؤية النظام الثاني: الاشتراكيّ.

لقد كان تعويل البستكي والجماليّ على التنشئة الثقافية بمبادئ التقدم والتنوير كبيرا، وليس هذا وحده ما شغل باليهما، وإنما أيضا -وهذا هو الأهم- الاهتمام بمكاننا -كأمة عربية- في الوضع الدوليّ المستجد، من منطلق الرغبة في أن تنهض أمتنا، وأن تتحرر من كوابح التقدم والنهضة، سائرين في ذلك على خطى كُتاب ومفكرين عرب آخرين، ومتأثرين بما كانا يطّلعان عليه من كُتبٍ ومطبوعات صادرة باللغة الإنجليزية ساعين لرسم خريطة طريق النهضة المنشود.