سلاح الدول "غير القانوني" للإفلات من العقاب

"المرتزقة".. جنود الظل في معارك غير أخلاقية

 

◄ تواجد المرتزقة في مناطق الصراع والنزاعات سبب رئيسي لتفاقم الأزمات الأمنية وزعزعة الاستقرار وتصاعد العنف

◄ "آفة الارتزاق" تعرقل عمليات البناء الوطني والسلام وتعمِّق الانقاسامات السياسية وتهيئ البيئات المؤاتية لتشكيل الجماعات الإرهابية

◄ المرتزقة يعملون بشكل مستقل عن الجيوش العادية وعادة ما تكون مشاركاتهم في النزاعات مقابل أجر بعقود مبرمة مع الجهة التي تستعين بها

◄ أبرز مخاطر هذه الفرق "غير القانونية" صعوبة ملاحقتها أو مساءلتها بما يزيد توحشُّهم ويوسع دوائر جرائمهم

 

الرؤية - سارة العبرية

لم يكن الاستعانة بفرق "المرتزقة" في الحروب والنزاعات والصراعات أمرا جديدا في الآونة الأخيرة، بل أكد الباحثون أن تاريخهم يمتد لآلاف السنين إذ كان الاستعانة بهم شائعا لدى الإغريق والرومان والفينيقيين في القرن الخامس قبل الميلاد، كما شاع الاستعانة بهم أيضا في العصور الوسطى من قبل العائلات الغنية وبعض الدول لتعزيز قواتهم.

وعادة ما يكون للمرتزقة تأثير قوي في هذه الصراعات، حيث إنهم يعملون بشكل مستقل عن الجيوش العادية، وعادة ما تكون مشاركاتهم في النزاعات مقابل أجر يتم تحديدها وفق عقود مبرمة مع الجهة التي تستعين بها، وقد يتم تجنيد المرتزقة من قبل شركات خاصة أو من قبل دول أخرى.

ويُشير مصطلح "المرتزقة" عادةً إلى العناصر القتالية الخاصة التي تستخدم في العمليات العسكرية غير الرسمية، سواء كانوا من القوات العسكرية الخاصة أو الشركات العسكرية الخاصة، وعلى مر العصور شهدت صناعة المرتزقة تطورًا وتعقيدًا فيما يتعلق بالتنظيم والتدريب والتجهيزات، مما أدى إلى تأثيرها في السياسة والنزاعات العالمية.

ودائما ما تثار قضايا أخلاقية وقانونية حول الاستعانة بهذه الفرق لأن تواجدهم يتسبب في تفاقم الصراعات المسحلة وزعزعة الاستقرار السياسي، كما أنه في بعض الأحيان يتم اتهامهم بارتكاب جرائم وانتهاكات ضد حقوق الإنسان، كما أنه من الصعوبة محاسبتهم قضائيًا وفقًا للقانون الدولي.

ولقد ذاع صيت عدد من قادة المرتزقة مثل القائد السويسري فيرماكتر ومنتجبليان الفرنسي والقائد الألماني تيلمان، الذين عملوا لحساب دول وجيوش أخرى في القرن السابع عشر، وفي العصور الحديثة، استخدمت العديد من الدول المرتزقة في الصراعات العسكرية، ومن بينها أفريقيا في الفترة الاستعمارية والحروب العالمية.

الشركة البيضاء

كانت "الشركة البيضاء" (White Company) واحدة من الشركات البارزة المعروفة بتوظيف المرتزقة، وتنتمي إلى ما يعرف بـ"الشركات الحرة"، وتتألف هذه الشركة من مجموعة من الجنود المرتزقة الذين استفادوا ماديا من خلال المشاركة في الحروب في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر.

قاد المرتزقة البريطاني جون هاوكوود، الذي كان فارسًا في حرب المئة عام بين إنجلترا وفرنسا، وتحت قيادته تطورت الشركة لتصبح واحدة من أكثر جيوش المرتزقة قوة في إيطاليا وأوروبا؛ حيث ضمت مُغامرين من الجنسيات الإنجليزية والألمانية والمجرية، وكانوا يبثون الرعب في قلوب المعراضين بسبب هجماتهم المفاجئة والسريعة في أي وقت وأيمكان.

الحرس السويسري

يُعرف اليوم الحرس السويسري بدورهم كحماة للبابا في الفاتيكان، ولكن يعود تاريخهم إلى عصور النهضة؛ حيث كانوا جزءًا من عصابات المرتزقة التي ازدهرت في تلك الفترة وخلال القرون الخامس عشر والتاسع عشر، وقد قاتل أكثر من مليون مغامر سويسري في جيوش أوروبا.

كانت تلك القوات من بين أوائل الجنود الأوروبيين الذين أتقنوا استخدام الحراب والناردين ضد الأعداء المسلحين، وفي القرن الثامن عشر اكتسبت تكتيكاتهم الثورية وقسوتهم الشديدة سمعة باعتبارهم أفضل المرتزقة المتاحين للتعاقد معهم، وكان العمل لصالح الفرنسيين شائعًا بين المرتزقة السويسريين، كما أنهم شاركوا في الثورة الفرنسية حيث قاتلوا وسقطوا بأعداد كبيرة.

حرس فارانجي

تألفت وحدة النخبة التي عملت كحراس شخصيين للأباطرة البيزنطيين في الفترة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر؛ وكانت تُرسل هذه الوحدة إلى الجبهة على التخوم في أوقات الحروب لحماية وتوسيع حدود الإمبراطورية البيزنطية.

وكان الفارانجيون تجارًا سويديين اجتاحوا شرق روسيا، وبدأت قصتهم في عام 874 عندما تم توقيع معاهدة سلام بين كييف روس والقسطنطينية، وفي هذه المعاهدة تعهدت كييف روس بتقديم المساعدة العسكرية للإمبراطورية البيزنطية، وبالتالي عمل الفارانجيون لصالح الدولة البيزنطية في عهد الإمبراطور "مايكل الثالث"؛ حيث قاموا بدور حرس شخصي له.

توقفت دورة المرتزقة الفارانجيون بعد إجلاء بيزنطا من القسطنطينية في عام 1204 م على يد الأوروبيين الغربيين خلال الحملة الصليبية الرابعة، وفي عام 911 م، تحول الحرس الفارانجي إلى منظمة أمنية دائمة، وكان ولاؤهم للإمبراطور الذي كان يدفع لهم أجرًا كبيرًا مع السماح لهم بتنفيذ عمليات النهب، ولعبوا دورًا حاسمًا في المحافظة على وحدة الإمبراطورية وحماية العرش البيزنطي.

شركة كاتالونيا

تأسست شركة كاتلونيا عام 1302 على يد المغامر روجر دي فلور، وكانت تضم بشكل رئيسي مجموعة من المحاربين الإسبان الذين شاركوا في "حرب صلاة الزبل" في إيطاليا، بعد انتهاء الصراع مع إيطاليا.

وتعاقد دي فلور والمرتزقة العاطلين عن العمل مع الإمبراطور البيزنطي أندرونيكوس الثاني، الذي نقلهم إلى شرق البحر المتوسط للقتال ضد غزو الأتراك العثمانيين، وتمكن الكتالونيون الـ6500 المتواجدين منهم من هزيمة الأتراك بعيدًا عن القسطنطينية، ولكن رغبتهم في التخلص من البيزنطيين ونهبهم أثار غضبهم.

وفي عام 1305، تعرض دي فلور ونحو 1300 من رجاله لكمين وقتلوا على يد مرتزقة أخرى أرسلهم الإمبراطور، وخاض الناجون إحدى أكثر المغامرات دموية ومعقدة في تاريخ العصور الوسطى، بعد هزيمة الجيوش اليونانية ومقتل الدوق في معركة "كيفيسوس" عام 1311، وأصبح المرتزقة أُمراء فعليين لدوقية أثينا، وقاموا بتعزيز سلطتهم وحكمهم على أجزاء واسعة من اليونان لأكثر من 75 عامًا، قبل أن يتم هزيمتهم في معركة مع جيش من فلورنسا.

النمور الطائرة

كانت هذه الفرقة معروفة بشكل رسمي باسم المجموعة الأمريكية للمتطوعين، شكلت ثلاثة أسراب من الطيارين المقاتلين الذين قاتلوا إلى جانب الصينيين ضد اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية.

وتم حل المجموعة رسميًا في يوليو 1942، ولكن بعض أعضائها انضموا فيما بعد إلى وحداتهم السابقة وخدموا في مجالات أخرى خلال الحرب العالمية الثانية، وتم تشكيل هذه الوحدة للمرة الأولى في أوائل عام 1941، قبل تفجير ميناء بيرل هاربور، ومنح الرئيس فرانكلين دي روزفلت الضابط العسكري السابق كلير تشينولت إذنًا بتجنيد طيارين من سلاح الجو في الجيش الأمريكي كمتطوعين، بهدف تعزيز القوات المقاتلة ضد التوسع الياباني في الصين، وذلك في إطار سياسته للبقاء محايدًا تجاه الصراع ولمنع تقدم اليابان في الصين.

بلاك ووتر الأمريكية

تأسست هذه الشركة عام 1997 وفق القوانين الأمريكية من قبل إريك برنس، الذي كان ضابطًا سابقًا في مشاة البحرية "المارينز"، وتعتمد الشركة على مرتزقة من القوات المتقاعدة والقوات الخاصة من جميع أنحاء العالم، وتقدم خدماتها العسكرية والأمنية للحكومات والأفراد بعد الموافقة الأمريكية.

بدأ اسم بلاك ووتر يظهر بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في عام 2003؛ حيث حصلت الشركة على عقود أمنية في البلاد، وتورطت في جرائم قتل مدنيين عراقيين، وأدين أربعة من أفراد الشركة بتهمة قتل  14 مدنيًا عراقيًا بما في ذلك طفلين في مجزرة وقعت في بغداد عام 2007، وتم الحكم عليهم بالسجن مدى الحياة وبين 30 عامًا.

وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب أصدر عفوًا عن الأفراد الأربعة، الأمر الذي تسبب في الاستياء الشديد من قبل الجانب العراقي.

وبسبب الفضائح التي تعرضت لها أثناء احتلال العراق، قامت بلاك ووتر بتغيير اسمها إلى Xe Services في عام 2009، ثم إلى Academi في عام 2011، بعد أن تم استحواذها من قبل شركات منافسة وأصبحت تعمل ضمن مجموعة كونستليس القابضة، وتعمل هذه المجموعة في 20 دولة وتوظف أكثر من 16 ألف شخص، وفقًا لبيانات الشركة.

المخاطر

تعتبر المرتزقة من الظواهر الموجودة في العصر الحالي، وتشكل هذه الفرق مخاطر وتحديات عديدة، منها عدم القدرة على مساءلتهم قانونيا لأنهم يعملون خارج الإطار القانوني الوطني والدولي، الأمر الذي يساعدهم في ارتكاب الجرائم والانتهاكات.

ويعتبر تواجد المرتزقة في مناطق الصراع والنزاعات سببًا رئيسيًا لتفاقم الأمن ونقص الاستقرار، فهم يسهمون في تصعيد العنف والقتل وتعزيز الصراعات المسلحة، ويتداخلون في الشؤون الداخلية للدول ويعرقلون عملية البناء الوطني والسلام، ويسهمون في الانقاسامات السياسية ونشر الفوضى لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، بالإضافة إلى أن تواجدهم يعزز من تشكيل الجماعات الإرهابية  التي تشكل تهديدًا كبيرًا للأمن الدولي.

ولمواجهة هذه المخاطر، يتطلب الأمر أن يتعاون المجتمع الدولي لمكافحة استخدام المرتزقة وسن التشريعات التي تسمح بمساءلتهم وملاحقتهم قانونيا لحفظ الأمن والاستقرار وضمان حقوق الإنسان في كل دول العالم.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة