مع الشيخين الأميرين

 

سالم بن محمد العبري

في استراحة الجفنين للشيخ عبدالله بن راشد السيابي ذلك القاضي المخضرم والفقيه الموسوعي، كان انتظام مجلس الخليلي للشعر في دورة شهر يونيو لسنة 2023، وكما هو معتاد أن يبدأ إلقاء الشعر بقصيدةٍ لمؤسس هذا النهج واللقاء أي الشيخ عبدالله بن علي الخليلي- رحمه الله- كانت القصيدة "نبأتنا زنجبار" بقافية السين وكانت طويلة بحيث استغرق إلقاء الأخ موسى بن قسور العامري لها 16 دقيقة، كما قال المشرف والمتابع للقاء الأخ أحمد بن هلال العبري، وكانت كلمات القصيدة جزلة ليست قريبة المعنى لغير المهتمين بالعربية، ويبدو أنَّه لم يترنم بها مرارا لتتناسب مع صوته وإلقائه الذي ربما اختير لذلك من أجله.

رنَّ جرس الموسيقى بأذني فتذكرت قصيدة للشيخ أمير الشارقة الأسبق صقر بن سلطان بن سالم القاسمي "وطني منبت الكرام"، والتي ألقاها الشيخ صقر بين يدي أبيه الأمير سلطان القاسمي والشيخ سليمان بن حمير النبهاني، الذي كان البعض يدعوه بأمير الجبل الأخضر، وربما كان هو يهوى ذلك أيضاً وقد رُسم في أوراقه هذا اللقب كما مرَّ على مطالعاتي. وكانت المناسبة زيارة الشيخ الحميري للشارقة، وكان الشيخ صقر شابًا فحلًا يحمل فخار الانتماء الأسري والوطني، وكان مُتمكنا لغويا وقارئا معتزا بالتأريخ المشترك بين لِبنات الوطن العُماني وشخصياته التى صنعت تاريخه وأركان استمراريته لآلاف السنين وعشرات القرون، فهو يُضاهي تاريخ كل الحضارات في الغرب اليونانية والفرعونية وفي الشرق الفارسية والهندية والصينية وإن كانت تلك الحضارات تعتز وتُخلِد شخصياتها وزعماءها، فإن عمان والشاعرين يعتزان ويخلدان الشخصيات والزعامات ومنهم من كان لهما شرف الانتساب إليهما.

وإن كانت المناسبتان مختلفتين: مناسبة الابتهاج والسرور والاحتفاء بزيارة صنو لصنو وأمير لأمير، بينما قصيدة الشيخ الخليلي تتحسر على ضياع زنجبار والمآسي التي حلّت بالعرب ومن معهم من الأفارقة ومن العمانيين وغيرهم فوصل الإجرام إلى أن يذبح العرب كذبح الشياه وهذا ما نُقل لي عن الفعلة التى اقترفت بحق (صالح بن خميس العبري) فقد ذبحوه وربما أكلوا كبده.

وإن اختلفت المناسبتان لكن الباحث والموحي والمتغنى به هو واحد يسكن وجدان الشاعرين الأميرين، كما كانا وكما يشعران، لذلك كان الموحي واحد وجبريلهما واحد تمكن منهما وغرس في وجدانهما ولسانهما وصاغ شاعريتهما وسبقهما وهو عمان الموحد المتحد جغرافيا وتاريخيا.

لذلك كان العنوان مع الشيخ صقر وطني منبت الكرام وكان مع الشيخ عبدالله الخليلي (نبأتنا زنجبار)، مناسبين للموقف الذي يعبر عنه كل منهما، لكن المرجع واحد وهو الوطن المشترك وأبطاله ومعاركه وإنجازاته وميادين كفاحه وإثخانه للأعداء. وكانت القافية بحرف (السين) متناسقة وموحية ومبلغة لخطابهما وافتخارهما وتأوه كلٌّ منهما على الماضي المجيد فتجد ألفاظ (حسي، ندسي، لبس، رفس،  اخس، نحس، ندس، نفس، يأس، وشمس، قدسي) كما في أبيات الشيخ صقر.

وهكذا أيضًا أتت قافية قصيدة الشيخ الخليلي (نفسي، أمسِ، أنسِ، غمسِ، وجسِ جرسِ، التآسي، حسي، شمسِ)، وإذا أخذنا نماذج من أبيات القصيدتين فالخليلي يقول مبتدأ القصيدة (خلّياني على عُصارةِ حِسّي//أحتسيها آناً وآناً أُحَسّي) (خلّياني أُذيبُ حباتِ قلبي//بعقيقِ الدُموعِ من ذَوْبِ نفسي) (خلّياني أُديرُ أكوابَ جَفني//لنضيرِ الحياةِ من يومِ أمس) (أقطعُ الغابَ والظلامُ رفيقي// وخريرُ المياهِ في الغابِ أُنسي) (وعلى الأَجمةِ الصغيرةِ منه//أنّةٌ كالنشيجِ في بَطنِ رَمس) (ونداءٌ يصيحُ بي من بعيدٍ//وصَداءٌ كأنه تحت وَجْس) (وأهازيجُ بلبلٍ خَفقَ الوَجْـ//ـدُ على قلبهِ كنَغمةِ جَرْس)(ودموعٌ يُهريقُها الجَفنُ لكن) (بين لَفحِ الأَسى ونَفحِ التأسّي)

وينتقل الشيخ الخليلي ليقدس الكفاح ويصوره تصويرا بديعا (وحياةُ الشعوبِ ضَخُّ دِماءٍ//في ثراها كأنّها صَوبُ رَجس)، (ويراعٌ يَخُطُّ بالدمِ سطراً//فوق طِرفٍ كالبرقِ أو فوق طِرس) (وحسامٌ يُهَلْهِلُ الأرضَ وَشْياً//لا يبالي بيومِ سَعدٍ ونَحس)، ثم ينتقل ليخاطب رفاق الكفاح (إخوتي في الجنوبِ في الشرق في الغر//بِ ومن في الشَمالِ من أهل جنسي)، (ورفاقي في قارّتيْ آسيا الأُ//مِّ وإفريقيا بوعرٍ ودَهس ) (نبأتا إخوتي على زنجبار) (ناجتاكم ما بين جهرٍ وهمس//أضحكتكم أولاهما وبكى الدهـ//ـرُ لأخراهما بعينَيْ أخَس)، (وعيونُ الفصحى عقيمٌ من الدمـ//ـعِ كأنَّ الأرزاء في غير إنس)، (إخوتي إخوتي أَنَوْماً هنيئاً//وعلى زنجبار أنيابُ فَرس)، وهنا يصور تصويرا بديعا لمظاهر تلك الفاجعة (غادةٌ تُستباحُ جهراً وشيخٌ // مُستهانٌ وباسلٌ تحت رَمس)، (ويتيمٌ يبكي على أبويهِ // وغلامٌ تُرديهِ أحجارُ نِكس)، (ورضيعٌ يشقّهُ العِلجُ نصفيْـ//ـنِ ويبغي بأُمّهِ كلَّ رَكس)، (وفتاةٌ كأنها البدرُ سيقتْ//أَمَةً تحت سَيءِ الخُلقِ نَحس)، ثم يقول: (صرخاتٌ عبر الأثيرِ إليكم//تُذهلُ الكونَ عن رضيعٍ وعِرس)، (مزعجاتٌ مدوّياتٌ عليها//أثرُ الذُعرِ بين شُقْرٍ وفُطْس).

وإذا كان الخليلي قد بدأ بـ(خلياني) وكررها مرتين فإن القاسمي شرع قصيدته بـ(نحي عني المدام) وهو ابتداء يلتزمه الشعراء السابقون في فترة زمنية ضاربة في التأريخ الأدبي الشعري لكن الخليلي شرع بـ(خلياني) والقاسمي بـ(نحي عني الخمر)، وفي ظني أن لابتداء عند كل منهما مرتبط بحياته وشبابه فالخليلي نشأ في بيت الإمامة بعيدًا عن حياة الشباب مع اللهو والخمر، بينما القاسمي ربما عاش في شيء من حياة بها فسحة من التغني بالخمر ومعاقرتها والوقوف مع الجمال ولذة معايشته والتباري بوصفه ومنادته؛ لذلك فإن الأمير القاسمي لم يبتعد عن الخمر حتى في أواخر عمره رغم تحليه بمكارم الأخلاق والإباء ونصرة العروبة  والقضايا العادلة بالعالم. وفلسطين كانت تستحوذ وتستولي على فكره، كما ناصرا معا هذه القضايا والنضال العالمي معًا؛ فالخليلي يهيب في هذه القصيدة بالغرب والشرق والشمال والجنوب وبآسيا الأم، فإن صقرا يعرج في هذه القصيدة على بلاد العرب (بلدي الشام والعراق ومصر // يمن نجد وموطني مع قدسي) (وطني منبت الكرام عمان // وغياث المنكوب من كل بؤس)، ثم ينميه وينسبه (عربي نمى لقحطاني الفخـ//ــر ونجي من كل وغد أخس) (توجت عرسه اليعاربة الصيــ//ــد وباهي بيومه وبأمس) (خض بى البحر من دماء الأعادي // وقرى الحوت من شبيه الدمقس)، (وأرى البرتغال يوما عبوسا // لم يقم بعده لهم من درفس).

وتلاقى الشاعران في الإشارة إلى زنجبار بوصفها دليل متسع حكمها وهذا يتحسر على ضياعها، ثم يأتي القاسمي وهو يدعو للوحدة ورص الصفوف وشد الأزر (يا سليل الملوك من آل نبــ//ــهان هم الناشؤن من خير غرس) (إن يوما شرفت فيه ليوم // جاد فيه الزمان من بعد يأس) (فعلى الرحب والسعادة فانزل // يا حفيد الملوك في كل نفس) (أنت من صنوك المبارك في أعلى مكا // ن، وقيتما كل بؤس) (واعقدا بالوفاق عهد جدود // ارهقوا خصمهم بشدة بأس)، (فعمان لو مزقتها الأيادي // مهجة تشتكي لأهون مس)، ثم انظر إليه وهو ينادي أبي سلطان (إيه مولاي يا سلالة سلطا//ن، ومن مثله لفتح وغرس) (كم عظيم من ذكره فقد الحز//م، وما كان خائر النفس جبس)، ثم يختم القاسمي صقر وهو الصقر (يا ملاذي وأنت كفؤ إذا نو//دي، وغوث إن كر خطب بنحس) (لك منا النفوس فآمر تجدها // لك إن ضن كل وغد أخس).

ولم تكن النهاية بهذه الشطر مناسبة كما أرى؛ بل كانت تلزم أن تشير إلى الاستعداد بالتضحية بالنفس بالبحر أو على صهوات الأفراس، وإن أرادنا أن نذهب للمقارنة بين الفارسين الشاعرين الأميرين فنحتاج لمجلد ضخم خصوصا إنهما كما أشرنا هنا أو في كتابات سابقة وخصوصا ما كتبت عنهما حين شاركت في ورقة عن الشيخ الخليلي بمناسبة تكريمه من مؤسسة (البابطين الكويتية).

إنهما تكاد تحسبهما نفسا واحدة وروحا مؤتلفة لا تنفصل وتجلى هذا حين التقيا معي بالقاهرة في 1987 بالمنزل الذي أقيم به في 27 شارع سوريا بالمهندسين وربما لم يلتقيا معا وجها لوجه. ولقد قدمنا هنا لكم بعضًا من شعر وفكر فارسين عربيين قلما تجد لهما مثيلًا في الانتماء والاعتزاز بالنسب والوطن وفي فحولة الشعر.

تعليق عبر الفيس بوك