فن المديح السياسي في "بائية" الشيخ القاضي عيسى الطائي

 

ناصر أبوعون

يوم أن صار "فن المديح" نقيصةً على ألسنة البعض من المشتغلين بصِنْعة النقد، تراجع دور الشعر القهقري، في بثّ روح التجديد، ونفضِ الغبار عن الإرث العربيّ التليد، إلا أنّ فجر الأمل في انبعاث نهضة حضاريّة مشرقيّة تأخذ بأزمّة العلوم، وتمتلك ناصية الفكر ما زال يملأ القلوب التي تخشى أن تستيقظ ذات ضحى؛ فتجد شمس القيم الإنسانية النبيلة قد أَفَلَتْ، والقدوة في آبار النسيان قد سقطتْ، ومصابيح الهدى قد انطفأت وعمَّ ليل الجهالة الدامس وطمّ، وأمسى الجيل الواعد يتعثّر في مخرجات "عصر التفاهة وتذويب الإنسانية"؛ فإذا "ما ألقى السمع وهو شهيد" تناهت إلى مسامعه عبارات يُخاصم لفظُها معناها، وتتنافرُ صورُها مع موسيقاها.

شعر المديح بطاقة شكر

ومما يورث في الحلق غُصّة أنْ تتحالف بعض الأقلام، وتتآمر بعض الأبواق على ديوان الشعر العموديّ، ورميه بكل وصمة ومذمّة، فإن قلتَ لهم فأتوا بقصيدة من مثله، أو بيت على رسمه، أو معنى على وسمه، أعرضوا ونأوا بصحائفهم التي سوّدوها بترّهات أفكارهم عن كل إبداع تراثيّ لايطاولون فيه سِمتا، ولا يبلغون منه شأوا، ولا يرتقون له سُلّما، أيديهم مغلولة إلى أعناقِ أقلامهم، لا يستطيعون إلى بناء صُورِهِ سبيلا، ولا يَقدرون على ترسّم خطاه تعبيرًا، عاجزون عن اقتفاء أثر مجازاته، وقاصرون عن النسج على منواله، ومُصرّون على إدانة مدائحه، والانتقاص من شاعرية قائليها، وإن كانت "لا تسأل ولا تستجدي؛ بل تحمد الجميل لأهله، وتعترف بالمودة، إنها بطاقة شكر دقيقة لا يرى الشعراء فيها بأسا على اختلاف منازلهم في قومهم"(1)

الشيخ عيسى الطائي.jpeg
 

الطائي يحمد الجميل لأهله

إنّ شعر المديح- وهو طبيعة إنسانية لاتخلو منها الآداب الإنسانية شرقا وغربا منذ بدء الخليقة- لا يُعابُ إلا من وجوه معدودة؛ منها: ما أنشأه الشاعر متكلّفا في صوره، ومغاليا في عباراته، ومبالغا في صفاته، ومجاوزا في سماته خُلقا وخَلقًا ونسبا، وعلما وشرفا، أونعت الممدوح بما ليس فيه، طمعًا في نيل عطاياه أو اتقاءً شره، أو ممالئةً ونفاقًا لاستعطافه. ولا يُعْرَفُ الفرق بين النفاق والمدح، إلا بإجماع الأمة التي لا تجتمع على ضلالة. ومن هذا المديح الذي يحمد الجميل لأهله ما أبدعه الشيخ عيسى بن صالح الطائي في "بائيته" (حدّ القواضب)، وهي من بحر المتقارب في مدح الإمام العادل، الشيخ سالم بن راشد بن سليمان بن عامر بن عبد الله بن مسعود بن سالم بن محمد بن سعيد بن سالم الخروصي إمام عُمان في الفترة (1331- 1338هـ/ 1913- 1920)، وتهنئته بالنصر في حروبه سنة 1331هـ. حيث أجمعت الأمة، وما تجتمع أمة الإسلام على ضلالة، وشهدت "على بكرة أبيها" بورعه وتقواه، وعدله وإنصافه، وزهده وعلمه. "وكانت العرب لا تتكسّب بالشعر وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهةً أو مكافاةً على يدٍ لا يستطيع أداء حقّها إلا بالشكر إعظاما لها، كما قال امرؤ القيس بن حجر يمدح بني تميم [(أقرّ حشا امريء القيس بن حجر// بنو تميم مصابيح الظلام)](2)

الممدوح مثال يُحتذى

وقد جاءت قصيدة الشيخ عيسى الطائي مجمعًا للفضائل التي قَبَضَ عليها الإمام العلامة سالم بن راشد الخروصيّ قَبْضَ الجمر، فجمع بها أزمّة الشريعة، وأمسك فيها بأعنة الأخلاق؛ وصار مظهره مرآةً لمخبره، وظاهرُه صورةً لباطنه، فضلا عن عقْد البيعة له على يد الإمام المجدد نور الدين عبدالله بن حميد السالمي (1286: 1332هج)، فكانت له شهادة بحسن السيرة ونقاء السريرة، فسارعت (جموع أهل داخلية عُمان) إلى طاعته وبسطت له يد البيعة. ولا شك أن إقدام الشاعر على قرض هذه القصيدة، "يشكّل مساهمة فعّالة من جانبه في بلورة المُثل العليا، وحضّ الناس على الاتجاه نحوها، وتشجيعهم على احتمال كل ما تتطلبه من عناء وشِدّة وصبر وحزم، وجعل الممدوح مثلا يُحتذَى، وتقديم براهين محسوسة على صدق ما يذهب إليه؛ كما إنه يدفع بطريقة غير مباشرة أو من باب حبّ التشبّه بأصحاب العظمة، كلَّ مَن في نفسه شيءٌ من طموح وغرام بالفضيلة إلى أن يعمل على بلوغ مراتب الشرف والمجد، واللحاق بركب المشاهير من أهلها"(3) ومن ذلك قوله: [(فقام الهُمام الهِزبرُ الغيورْ الْ // فتى السالميُّ يحثُّ النجائبْ)، (هو البحرُ إنْ جئتَه في الوفُودِ // ه و الليثُ إن جئته في الكتائبْ)، (إلى أن أتى حِميرا في تَنُوفٍ// فسِيقتْ إليه جزيلُ المواهب)، (فتى ناصرٍ حميري رقى// ذرى المجد حتى ترقّى الكواكبْ)، (ولبّة هناة له طائعين// إلى دعوة الحق من كل جانبْ)، (ليوث إذا ما دعو في الوغى// بحور إذا ما أفاضوا المواهب)، (أقاموا إمامًا لهم سالما// فتى راشدٍ راشدٌ في الغياهب)].

قصيدة حد القواضب.jfif
 

المديح نضال عن قضية كبرى

لقد كان الشيخ القاضي عيسى الطائي في هذه المرحلة من حياته كغيره من الشعراء الفقهاء يرى في نفسه صوتا لضمير الإمامة، ولسانَ حالها المعبّرَ عن غايتها، والإعلاميّ المبلّغ لرسالتها، ومن ثّمَّ فإنّ مدحه للإمام العلامة الخروصيّ صدر عن روح وثّابة للخير، ونفسٍ مجاهدة باعت نفسها لربّها، صادقة في أفعالها وأقوالها، و"لا يمدح بهدف التكسّب ولا رغبة في التوسّل والاستجداء، وإنما يمدح دفاعا عن (الدين)، ونشرًا لرسالة ىمن بها، وعاهد نفسه على حملها والتبشير بما تنشره"(4)، فهو يعتقد ويرى في نفسه أداة وجهازا إعلاميا من أدوات الدولة، وترسًا يدور في آلة عظيمة، ومهمته التأصيل، والتنوير بدور الحاكم وعدالته، "فالشاعر الإسلاميّ لا يمدح بالمعنى التقليديّ للمدح، ولا يتخذه حِرفةً، ولكنه يدافع ويناضل عن قضية كبرى، وعن موقف اتخذه إزاء العالم، وكان مديحه ضربًا من الجهاد الدينيّ المقدّس يكمل به إيمانه ويعمِّقه"(5)

الإمام سالم بن راشد الخروصي.jpg
 

السمات الفنية في بائية الطائي

ومن يمعن النظر وإدامة الفكر في المضامين الفكريّة والسمات الفنية التي تتمتع بها "بائية" الشيخ عيسى الطائيّ يجدها تتوفر على العديد من العلامات والدوال والمحمولات الثقافية نذكر منها:

(أ) مركزية ضميري المتكلم والغائب

وفي هذه القصيدة تتبدى ثلة من الضمائر، إلّا أنّ السيادة والمساحة الإحصائية الواسعة لضميري المتكلم والغائب؛ حيث يظهرا كبؤرة ونواة مركزيّة، يشبهان الشمس، بينما تدور سائر الأبيات مثل الكواكب حولهما بفعل تأثير قوة الجاذبية التي تشع من ذّات الممدوح، وانصياع الذات الشاعرة ثناءً وأكبارًا وإعجابًا، يمزج المدح للإمام بالفخر بدولة الإمامة، ويحرِّض القوم على التحزّب لها ونُصرتها، والذَّود عن حياضها، فانتقلت قصيدة المديح على يديه إلى "شعر سياسيّ" متعقلن، لا تسوقه المغالاة والعصبية إلى مراتع الهوى، ولا تجنح به إلى مصارع الفتن. كما في قوله: (أرى النصر)، (تخبرنا)، (غدونا نشاوى)، (سقينا كؤسا)، (صحونا)، (وجدنا)، (فقمنا) [(علمنا يقينا بأن الله // لنا ناصر حيث كنا نحارب)].

(ب) بناء القصيدة على غرض واحد

إذا كانت هذه القصيدة كلاسيكية شكلا ومحتوى وعمودَا شعريًا إحيائيّا، ونسقًا نظميا خليليًّا، وتقوم على وحدة البيت، إلا أنّ الشاعر نجح في تحقيق مفهوم الوحدة العضوية والوحدة الفكريّة، وكانت هذه الوحدة من السمات المتقدمة التي ظهرت في الشعر العربيّ مع غروب شمس وأفول نجم المدرسة الكلاسيكيّة التي قادها "البارودي" و"شوقي" ومهّدت الطريق لاعتمادها كـ(فرض عين) في قصائد شعراء المدرسة الرومانسية التي ورثتها لاحقا؛ فالقصيدة من المبتدأ إلى المنتهى تدور على غرض واحد مركزيّ غير أن هذا الغرض وتحت جاذبية الفكرة ودورانها داخل القصيدة، صار يتشظى وينشطر إلى عِدة معانٍ نوويّة متناهية الصغر، تتولّد عن الغرض الأكبر، وظهرت براعة الشاعر في انتقاله السلس بين سائر هذه المعاني معتمدا على مهارته البلاغية، ودُربته الحاذقة في توظيف ما يسمى اصطلاحا بـ(حُسْن التخلّص)، والوصول إلى هذه الغاية يتأتّى شريطةَ أن يجعل الشاعرُ المعنى التالي متعلقًا بالمعنى السابق ولا ينقطع عنه، على نحو ما ورد في هذه الأبيات الثلاثة المتتالية: [(أقاموا إمامًا لهم سالما// فتى راشدٍ راشدٌ في الغياهب(هناك أرادوا المشورة في// أمورهم لاقتحام المصاعب)، (ولمّا استتمَّ لهم ما بنو// هـ قاموا بشكرٍ لنيل المآربِ)، (ففاضوا لنزوى ضحىً بعدما// دعاهم يؤدوا له كل واجب)].

(ج) توظيف الأسلوب القصصي

فإذا ما أعاد القاريء مطالعة هذه البائية المدحيّة أخذ بِلُبّه (الأسلوب القصصي) الذي يُطل من بين ثنايا أبياتها، فضلا عن لغة السرد البسيط الفطريّ الذي لم يتطور إلى صور مركبة أو معقّدة. فمن خلال القصيدة يسرد الشاعر عيسى الطائي قصة تنصيب الشيخ الرضي الزاهد سالم الخروصيّ، وعرّج بنا على أمنية العلامة نور الدين السالمي بقيام إمامة في عُمان تقتفي نهج الخلفاء الراشدين، وسعيه في تهيئة الأمة وإعداد تلاميذه ومريديه تربيةً وفقهًا وشرعًا للوصول إلى هذه الغاية، وسعيه الدؤوب إلى تمهيد البيئة الاجتماعية لتحقيق هذه الهدف، وصولا إلى مبايعة القبائل والعلماء لتلميذه الخروصيّ، الذي قام بإخضاع العديد من الولايات العُمانية ووضعها تحت إمرته. ولاشك أن الأسلوب القصصيّ الذي انتهجه الشاعر كان مؤثرا وناجعُا في إيصال رسالته، ويُعد" شكلا من الأشكال المعمارية في بنية الحدث والتي تؤكد معنى الوحدة المتسلسلة والتلاحم المنطقي بين تجربة الأديب وتعبيره، وذلك من خلال سرد الواقعة بنسج فنيّ مثير يتابعها المتلقي بشغف ومتعة، وينساق وراءها، ولم تتضمن القصة أيّة عقدة، بل صاغها الشاعر دون أن تتشابك أحداثها صياغة تتيح للمتلقي الاندماج في جوها ومحيطها، والفصل في ذلك يعود لتجسيم المواقف، وتصوير المشاعر، وسرد الخواطر حسبما تجري في الواقع والعقل الباطن"(6)

(د) المقدمة الخمرية

من الملفت في بائية الشيخ عيسى الطائي، أنّها بدأت بـ"استهلالةٍ خمريّة" جاءت صريحة في البيت الثاني، خِلافًا لما هو معهود من الشعراء الكلاسيكيين الذين وقفوا على أطلال الأحبة، وبثّوا شكواهم، وربّما ارتأى الشاعر هذا المدخل يناسب غرض "المدح والفخر" الذي تدور عليه بائيته، وربّما رغبة في متابعة ومعارضة عمرو بن كلثوم في معلقته اليتيمة التي مطلعها: [(ألا هبي بصحنك فاصبحينا // ولا تبقي خمور الاندرينا)]؛ حيث "تأتي الخمرة كفاتحة لها ثم ترتبط بباقي القصيدة من خلال موقف التحدي العام الذي يشكّل النبض المتواتر، ثم يصف الخمرة في أربعة أبيات تتميز بغنائية رائعة وبعدها ينطلق متحديا عمرو بن هند من خلال الفخر بنفسه"، بينما يتجاوزه شاعرنا إلى أنواع عديدة من التحدي يقف في مقدمتها إقامة نظام الإمامة على نهج الخلافة الراشدة، وتتابع المبايعة، وقيادة الحملات العسكرية المتتالية لإخضاع الولايات وانضوائها تحت إمرة الإمام. [(أرى النصر وافى وهذي النجائب// تخبّرنا عن بلوغ المطالب)، (غدونا نَشَاوى كأنّا سُقينا// كؤوسًا من الرَّاح نِعْمَ المشاربْ)، (فلمّا صحونا وجدنا القلوبَ// أحاط بها الأنسُ من كل جانبْ)، (فقُمنَا نمُدّ أيادي التهاني// وننشر في الأرضِ كلَّ الرغائب)].

(هـ) الحضور الموسيقي الكثيف

اعتمد الشاعر عيسى الطائي على "القافية المقيَّدة" المنتهية بحرف "روي" ساكن هو الباء، وهي قافية تتسم بالخفّة عندما تلازم تفعيلات "بحر المتقارب"، فضلا عن تخلّصها من العيوب الشائعة في ديوان الشعر العربي الكلاسيكيّ؛ وهي تعتور قصائد كثير من الشعراء؛ فأتى بها الطائيّ شافية بلا "إيطاء" ولا "إقواء"، ولا "دخيل" ولا "سناد" ولا "تضمين"، فضلا عن توظيفه "الإيقاع الداخلي" الناتج عن تعاطف الشاعر مع "دولة الإمام"ة واحتفائه بتولية الخروصي، ومبايعته والحضّ على السمع والطاعة له، ومن ثَمَّ ظهرت العديد من الإيقاعات الموسيقية النابعة من استخدام بعض الألفاظ والحروف المتجاورة التي تولّدت عنها نغمات جرسية مؤثرة في السامعين.، ولاشك أنّ اعتماد الشاعر على "بحر المتقارب" حيث تنساب أنغامه، وتطرد تفاعيله، ويتوائم مع تقنية السرد التي لجأ إليها الشاعر في التأريخ لأحداث مبايعة الإمام الخروصيّ وما تلاها من حملات عسكرية على العديد من المدن، بالإضافة إلى أن تفاعيل هذا البحر تتساوق مع صفات الممدوح المتتالية كحركة الأمواج المتتابعة والنغمات الموسيقية المتدفقة.

الإحالات والمصادر:

(1) قصيدة المدح، وهب روميّة، ص:39

(2) العمدة 1: 49، ابن رشيق، مصر، 1955

(3) انظر: فن المديح وتطوره في الشعر العربي، أحمد أبو حاقة، منشورات دار الشرق الجديد، بيروت، ط1، 1962

(4) انظر: قصيدة المدح الأندلسية، ص:8

(5) قصيدة المدح، وهب روميّة، ص:282

(6) انظر: السرد القصصي في شعر أبي تمام، د. سلام أحمد خلف، مجلة كلية الآداب، العدد 101، ص: 198