القنوات الفضائية وتوجيه العقل العربي

 

‏د. يحيى بن محمد البوسعيدي

yms.71@hotmail.com

 

‏لطالما تحدث الغيورون على أوطانهم والعارفون بدور وهيمنة وتأثير ‫القوة الناعمة؛ من مغبة التبعية العمياء واللهث المتواصل وراء نعيق بعض القنوات الفضائية الإخبارية وما تجره من خراب ودمار وتفتيت للدول؛ سواء أكان ذلك من خلال نشرها للشائعات أو بثها للكذب والتحريض والفبركة والتشويه الممنهج للدول المستهدفة أو عن طريق تسويقها وتبنيها ونشرها وترويجها للأفكار والأيديولوجيات المتطرفة من خلال استجداء العاطفة أو استقطاب أصحاب السوابق، أو أولئك الذين يتم أدجلتهم وحشو أدمغتهم بالأفكار المتطرفة أو بالنزعات الانفصالية، أو بالأفكار الرجعية التي تتعارض مع العقل والنقل ومع الواقع المعاش.

هذا كله فضلاً عن تعارضها مع روح الدين وقيمه، وللأسف ونتيجة لضعف لغة الحوار الهادف في بعض الدول وعدم قدرة الإعلام المحلي على مسايرة تلك القنوات الفضائية إضافة إلى ضعف قيم المواطنة وتدني النضج الفكري وقلة فاعلية مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، إضافة إلى القدرة الفائقة لبعض وسائل الإعلام في العزف على بعض القضايا الوطنية، وتطويع بعض القضايا والأحداث لصالح توجهاتها المختلفة، أدى كل أو بعض ذلك إلى تمكنها من تحقيق أهدافها المشؤومة، ونتيجة لعوامل داخلية وخارجية فضلاً عن تقاطع المصالح مع الأحزاب والدول الأخرى ذات الأطماع سعت تلك القوة الناعمة إلى تدمير وتفتيت أكثر من بلد عربي بنفس أساليب المكر والخداع والفبركة والتزييف، وتجنيد العملاء وتوظيف أصحاب الفتاوى المسيسة والمصالح الضيقة والآراء الإقصائية، ممن يجيدون تمثيل الصراخ تارة والبكاء والعويل تارة أخرى، ويمتلكون القدرة على التلون والتغير تبعًا لمتطلبات الموقف والوقت والمرحلة.

ومما يدعو للتفكر والاستغراب أن كثيرا مما تنادي به تلك القنوات الفضائية أو المواقع الإلكترونية من مطالب يدغدغ بها عواطف العوام ويستجدى بها حماس المراهقين ويلهب بها غضب الناقمين هي في الأساس غير مطبقة في البلد المُمّوِل لهذه الفضائيات أو تلك المواقع الإخبارية ولربما يعد مجرد الحديث عنها بدعة مستقبحة  أو كبيرة من كبائر الذنوب وعظائم الأمور التي لا تغتفر.

ومع ذلك ما زال المُغرر بهم يهرولون بلا وعي ويرقصون طربا بلا تفكير بل ويقدسون ما ينشر ويذاع بلا فهم أو إدراك أو تدبر أو  تمعن؛ وذلك شيء طبيعي بعد أن خُلخلت قناعتهم وغُيّبت عقولهم وغُسلت أدمغتهم فباتوا كريشة في مهب الريح يسيّرون وفق ما يملى عليهم بعد أن سُلبت عقولهم وغُيّب فكرهم. ولمّا كان الأمر كذلك كان لابد من وقفة حازمة ومتابعة دقيقة وعلاج متكامل وسريع حتى لا يستشري هذا المرض العضال والداء الخبيث كما انتشر في كثير من الدول والأقطار.

وتأتي الحلول الناجعة والسريعة من خلال مجموعة من المحاور والطرائق منها: تعميق قيم المواطنة والولاء للوطن وللحاكم مع غرس الجوانب القيمية والروحية والفكرية في نفوس الجميع وتشريب المناهج الدراسية بمضامين المواطنة، وتحقيق التكامل المعرفي، وذلك من خلال طرح هذه المواضيع في أكثر من مادة ومرحلة بما يتوافق والسن العمرية للطلاب، وبما يكفل تحقيق التكامل المعرفي والترابط الوجداني بين المواد ذات الطبيعة المتشابهة، مع إيجاد إعلام موازٍ ومنافس وقادر على دحض الأكاذيب والشبهات، وتفعيل لغة الحوار الإيجابي الهادف من خلال التحلي بموضوعية العرض ومصداقية التحليل وشفافية النقد وحرية التعبير، والسعي الدؤوب للإصلاح والتغيير للأفضل، مع ضرورة تقبل النقد البنّاء والقدرة على الاحتواء والإقناع.

حتمًا سيوجد من يتنكب طريق الصواب ويشكك في كل إصلاح ويسخر من كل إنجاز ويقزم كل مُنجز، إما جهلاً وسوء تقدير وضعف معرفة منه أو نتيجة تقصير في إيصال الخبر إليه أو كردة فعل تجاه مظالم أو أخطاء وقعت بحقه ويحاول إسقاط ذلك على الوطن أو على كل مسؤول. وقد يكون التشكيك والتكذيب والسخرية من كل إنجاز تنفيذا لأجندات خارجية مأمور بتنفيذها وفق مايملى عليه من أسياده لأنَّ تلك وظيفته وذلك عمله وستظهر خيانته جلية من خلال ديمومة سخريته واستمرارية تحريضه ومواصلة تقزيمه لكل منجز وطني في بلده، فمثل هؤلاء يجب أن تتم معاملتهم بحزم وعزم لأنهم ليسوا سوى ببغاوات تردد ما يطلب منها وتنفذ ما رسم لها من أجندات، وإن تغنت زورا بالوطنية وتدثرت كذبًا بتحقيق العدالة ‏الاجتماعية وتسربلت إفكا بمحاربة الفساد والمحسوبية؛ فطريق الصلاح والإصلاح واضح وبيّن وطريق الضلال والولاء للغير معروف ومفهوم ومشاهد، وكم من دولة عربية كانت تنعم بالأمن والأمان والاستقرار غدت خرابا ودمارا بعدما تركت الطابور الخامس وخونة الداخل يسرحون ويمرحون ويلعبون بأمنها ‏واستقرارها ويشوهون كل ما تقوم به بعد أن أفسحت المجال لكل مُتطاول للنيل من هيبتها ولم تتحرك قيد أنملة عندما تمَّ التطاول على رموزها وخطوطها الحمراء؛ بدافع حرية التعبير وللأسف الأسيف، فإن نتيجة كل أو بعض ذلك لا تخفى على كل ذي لب، بل لا توجد دولة في العالم تسمح بتخريب سلمها الأمني ‏أو تشويه صورتها والسخرية من رموزها ومنجزاتها حتى من خلال ‫وسائل التواصل الاجتماعي؛ بل وكم قد سمعنا وقرأنا وشاهدنا من حسابات تم إيقافها في دول تزعم أنها تقود حرية العالم وتنادي بحرية الرأي والتعبير والأمثلة على ذلك من كثرتها تزكم الأنوف، وحتمًا ويقينا من تسري في دمه الخيانة والارتزاق، فسيجد ألف مبررٍ ومبرر لشرعنة غدره وخيانته، والتاريخ مليء بمثل هذه الشواهد والأحداث.

تعليق عبر الفيس بوك