هيئة الوثائق تجادل الزمن (2)

 

د. مجدي العفيفي

(6)

ليس فقط لأنه رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية.. وليس فقط لأنه مؤرخ وباحث تاريخي أكاديمي.. وليس فقط لأنه يتحمل أمانة المحافظة على ذاكرة الأمة العمانية المتجددة، ويؤدي رسالته الوظيفية في خدمة الدولة والمجتمع؛ بل أيضًا لأن سعادة الدكتور حمد بن محمد الضوياني يغلب مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع، ولابد والأمر كذلك أن يبلي هذا التغليب بلاء حسنا. والشواهد كثيرة والمشاهد أيضا، في هذا السياق.

من أجل ذلك، تساءلت كيف نجح د. حمد الضوياني رئيس الهيئة، في توصيل هذه الرسالة؟ وذلك في تغريدتي على تويتر من وحي الملتقى العلمي (محافظة جنوب الشرقية في ذاكرة التاريخ العُماني ولاية صور 23- 25 مايو 2023) ثم كيف انتظم 72 باحثا ليستخرجوا كنوز عمان التاريخية من قلب مدينة صور ويعرضوها للعالم ويكملوا الحلقة المفقودة في سلسلة منطقة الخليج، انطلاقا من القيمة المضافة التي تمثلها المؤتمرات والندوات في دراسة التاريخ الحضاري لسلطنة عُمان وتتبع ما حققه الإنسان العماني على مدار الحقب التاريخية المختلفة، وأولت الهيئة اهتمامها إدراكاً منها بتحقيق الأهداف المرجوة والغايات المنشودة التي أنشئت من أجلها، ومنها استغلال الوثائق والدراسات والبحوث ومختلف المصادر الاستغلال الأمثل، دراسة وبحثاً وإصداراً، وأصبح ذلك منهجاً تعمل عليه الهيئة بأحداث سلسلة من الندوات والمعارض الوثائقية لإبراز الجوانب الحضارية والتاريخية للمحافظات والمدن العُمانية، طبقا لمنظور الدكدور الضوياني.

(7)

في المساحة المتحركة ما بين التاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، دارت المحاور الثلاثة للملتقى، تنقلنا في أجواء المحور التاريخي والسياسي ما بين «رأس الحد وطيوي في المصادر البرتغالية المترجمة (1507- 1650م) للدكتور أحمد بن حميد التوبي، و«جزيرة مصيرة وتأثيرها الجيوستراتيجي في أربعينيات القرن العشرين للدكتورة بهية بنت سعيد العذوبية، ورأينا«الاضطرابات بصور فترة حكم السلطان فيصل بن تركي من خلال وثائق الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي»مع د. محمد بن عبد المؤمن محمد، وشاهدنا مدينة«صور العُمانية في التقارير والسجلات البريطانية عبر تقرير الوكيل السياسي ج. ب. ميرفي عام 1929م نموذجا» من منظور د. هيفاء بنت أحمد المعمرية، ونقلت لنا الباحثة مريم بنت سعيد البرطمانية سردية ذاتية لشخصية«سعيد أبو علي القلهاتي ومكانته في القصر الصيني» والدور الذي لعبه في هذا المكان الحيوي، مثلما استعرضت لنا د. فاطمة بلهواري «جوانب حضارية لمدينة قلهات في ظل حكم الهرمزيين من القرن 7-9هـ/ 13-15م» وفي سياق أهمية المكان ودلادلاته في محافظة جنوب الشرقية، قرأ لنا د. عادل بن راشد المطاعني صفحات من ولاية جعلان بني بو حسن ومكانتها التاريخية (1601م – 1901م).

(8)

ولأن الخيوط الشرقية متشابكة، ضمن أنساق المنظومة العمانية عبر العصور، فقد تداخل الشأن الاقتصادي مع البعد الاجتماعي المجتمعي، إذ أبحر بنا د. ضرار محمد فضل المولى في ميناء صور من على أصوات الوثائق والسرديات الروسية للفترة 1880- 1910، فزودنا د سعيد بن محمد الهاشمي بشرائح من تاريخ الفلاحة والمهن المرتبطة بها في محافظة جنوب الشرقية: ولاية الكامل والوافي كنموذج دال، بقدر ما خاض د. سليمان بن عمير المحذوري في كثير من النشاط التجاري في مدينة صور خلال النصف الأول من القرن 20م ولذلك أردف الذين نظموا الندوة أن يأتي بعد هذا المنعطف تنويعات تلقي ضوءا كاشفا في هذا المحور الأولى عن «محافظة جنوب الشرقية: خصائص الموقع الجغرافي والإمكانات الاقتصادية والسياحية للذكتور سالم بن مبارك الحتروشي، وعن رؤية د. ناصر بن سعيد لأربعة العتيقي «للتعاملات التجارية بين عُمان وشرق أفريقيا عبر القراءة الرقمية لمخطوطة دفتر حسابات محمد المديلوي وصالح العتيقي أنموذجاً (1350- 1361هـ/ 1932- 1942م)»، ثم «علاقة محافظة جنوب الشرقية بسلطنة عُمان مع دولة الكويت خلال النصف الأول من القرن العشرين» للدكتور د. حسام السيد شلبي، و«ملامح النشاط التجاري لمدينة صور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر» للدكتور بدوي رياض عبد السميع.

(9)

وإذا كانت الثقافة أعظم من أن تكون عملية تجميلية ولا تكميلية ولا ترفيهة ولا ثانوية، وأن العصمة في يد الثقافة، بمعنى أن عصمة أي مجتمع من السقوط بصورة أو بأخرى، تكمن في الثقافة بالمعنى الإنساني العظيم والشامل، فقد جاء منظور الندوة أكثر اتساعا لإعطاء المحور الثقافي أجواءه الأكثر رحابة، في 13 مصباحا ثقافيا تدلت في فضاء الملتقي.

كأن د. فيصل سيد طه حافظ كان يمشي على حد السيف، وهو يتماس بدراسته النقدية مع التلامس الأوروبي الإسلامي في الرؤية الحضارية لمدينة قلهات في القرن (8هـ/ 14م) من خلال رحلتين؛ الأولى: رحلة ماركو بولو الإيطالي، والثانية: ابن بطوطة، الذي زار المدينة بعد ماركو بولو بنحو خمسين سنة تقريبًا، ثم استقطر الباحث ناصر بن صالح الإسماعيلي شواهد ومشاهد مدينة صور في مخطوط البيان، المنهج الوصفي التحليلي لاستخلاص المسائل الفقهية المتعلقة بمدينة صور، واستعراض نبذة عن مخطوط البيان وجانبا من سيرة مؤلفه مستعينا بالمخطوط والوثائق والمراجع ذات العلاقة بالدراسة، وكشف د. زكريا طعمه الجماليات النقدية وهو يتخلص معالم التحصينات الدفاعية بمدينة صور: ما بين العمارة والتأهيل، وفي السياق ذاته استخلصت الباحثة وضحة بنت محمد الشكيلية أهمّ معثورات المواقع الأثريّة ودلالاتها بمحافظة جنوب الشّرقيّة، تحقيقا وتدقيقا وتوثيقا هندسيا وتحليليا للمواقع المختارة، وهي موقع رأس الحد، ورأس الجنز، وقلهات، ووادي شاب، والسويح، ورأس الخبة، وسعت سعيا أثريا لتصنيفها وإبراز خصوصياتها ودلالاتها مقارنة بما هو متوفر بمختلف ولايات السلطنة ومحافظاتها، وفي عالم الآثار وأسراره أيضا سرد الباحث سلطان بن سيف البكري فصولا من تاريخ البحث الأثري في محافظة جنوب الشرقية وأبرز المواقع الأثرية المكتشفة، وانفرد د. ماجد بن حمد العلوي برؤية لغوية أسلوبية تمكن من توظيفها لخدمة البعد الثقافي لجنوب الشرقية، فطرح مسألة الكناية في محافظة جنوب الشرقية وغاص في لغة الناس ولهجة المجتمع ذات الخصوصية، بهدف إعادة قراءة الكناية العُمانية قراءة تتجاوز ثنائية اللفظ والمعنى إلى تحليل في المرجعيات التي أوجدت هذه الكنايات وأكسبتها شيوعا وتوارثا بين الأجيال، حتى غدت عتبات ثقافية يلج المجتمع من خلالها إلى عوالم دلالية تصف الحالة الاجتماعية من حيث ثقافة المجتمع وتدينه ومستوى المعيشة فيه إلى غير ذلك من العوالم.

وكان التجاور في المنظور حين تحدث د. صلاح بن ربيع المخيني عن مدرسة «الغزالي» التي أسسها الشيخ عبد الله الغزالي، وألقى الضوء على الجهود التي بذلها مؤسس المدرسة مع الأهالي لإنشاء المدرسة وتكوينها، ومدى تأثيرها على أبناء الولاية والمحافظة، وبيان إسهام معلمي مدرسة الفلاح وطلابها في بناء المجتمع وخدمته سواء في فترة الأربعينيات أو بعد تولي السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- الحكم، وفي السياق التعليمي كانت رؤية للباحثة سعاد بنت سعيد السيابية عن تطور مسيرة التعليم في محافظة جنوب الشرقية في عهد السلطان سعيد بن تيمور (1350 هـ/ 1932م - 1390هـ / 1970م) ثم استخلص د. سالم بن حمد النبهاني صور (المدينة والميناء) في كتب الرحَّالة والمستكشفين والتقارير الأجنبية.

وكان البحث العميق الذي استقطب الاهتمام العام من قبل الباحث بدر بن ناصر العريمي، عن علوم وتقنيات الملاحة البحرية عند نواخذة صور من خلال رحمانيات القرنين التاسع عشر والعشرين وهو بمثابة أطروحة جديرة بالتوقف إزائها طويلا إذ تحمل مقومات مضاهاتها بالعلوم البحرية الراهنة، وقدم د. سليمان بن سعيد الكيومي سطورا وثائقية في المراسلات الرسمية البرتغالية (1504-1522م) عن مدينة قلهات للدكتور كأول عاصمة لعُمان قبل ظهور الإسلام بعدة قرون، وكانت محط أنظار العالم في ذلك الوقت، بسبب المميزات العديدة التي تزكي موقعها الفريد والمتميز وكمدينة مهمة وميناء متميز كانت لها ميزة الاستقطاب للرحَّالة والمستكشفين والباحثين عن المعرفة، وأضاء الباحث فهد بن سالم المسروري مساحة واسعة للدور الذي لعبه الوقف في التنمية الثقافية والعلمية وتحديدا في ولاية جعلان بني بو حسن، ثم كانت النظرة ذات المسحة الموسوعية للشيخ حمود بن حمد الغيلاني عن الحراك العلمي والثقافي في ولاية صور خلال القرنين 19 و20 م متخذا من المنهج الوصفي التحليلي التاريخي شبيلا لتوصيل رؤيته، بمحاورها الثلاثة: المجالات التي تناولها أبناء ولاية صور واهتماماتهم العلمية والثقافية، والجهود العلمية والأنشطة الثقافية والأدبية ونماذج من الإنتاج العلمي والثقافي لأبناء الولاية، ثم أثر الحراك العلمي والثقافي في ولاية صور في المجال المعرفي.