من معاني الحج

 

سليمة بنت عبدالله المشرفية

أولا: الطواف

في مناسك الحج والعمرة للرقم سبعة سره الخاص إذ إنَّ معظم المناسك تنتهي بهذا الرقم، فنطوف حول الكعبة المشرفة سبعا ونسعى بين الصفا والمروة سبعا ونرمي سبعَ حصيات وهذا أمر الله تعالى، ولوعدنا إلى خلق الله لوجدنا أن لهذا الرقم حضورا زمنيا ومكانيا فقد خلق الله سبع سماوات ومن الأرض مثلهن وكذا أيام الأسبوع سبعة أيام وغير ذلك من بديع خلقه تعالى.

نطوف حول الكعبة المشرفة عكس عقارب الساعة وفي ذلك معانٍ وأسرار فتح الله تعالى على عباده الصالحين شيئا من أسرارها ومقاصدها حين تأملوا فيها، ومن ذلك أن المؤمن في هذه الحياة يجب أن تكون مفاهيمه معاكسة لأهوائه وأهواء أغلب البشر، فالربا مثلا يعدُّ عند أغلب البشر ربحاً بينما يعده المؤمن الذي يسير على منهج الله خسارة ومقتاً، وفي قانون الحياة الدنيا فإن النصبَ على الخلق شطارة ومهارة بينما في منهج المؤمن هو موت ضمير وهكذا في سائر مسارات ومجالات الحياة الدنيا.

إذن المؤمن يوطّن نفسه وفق منهج الله تعالى وهو بذلك يعاكس أهواءه ونزغات نفسه وأهواء أكثر البشر، وقد قيل في الطواف أيضًا أنه فرصة لأن يتذكر المؤمن ماضيه ويراجع حساباته، فيصحح أخطاءه ويجبر تقصيره، فهوإذن لحظات توبة وأوبة ورجوع واسترجاع ..

للطواف أسرار كثيرة ذكرها العلماء وعلى المؤمن أن يكون لديه تأمله الخاص به، فيطوف وقلبه عامرٌ بمعانٍ روحانيةٍ عظيمةٍ، ولا يقتصر على الطواف البدني الأجوف، بل هي فرصة سانحة للتأمل والتفكر، ولحظة مواتية للتوبة عن ما مضى ورغبة حقيقية في إصلاح ما هو آت ودعوة ضارعة صادقة بالثبات.

ثانيا: السعي

للسعي نصيبٌ من اسمه فهو بذل الجهد في المضي قدُماً، واستفراغ ما في وسع المؤمن من أجل تصحيح الأخطاء، وقطع نبتة اليأس من وجدانه من خلال تكرار المحاولة للوقوف، وترك النتائج على رب العباد إذن نسعى بين الصفاء والمروة سبعاً وفي هذا تربية للنفس على ضرورة الاستمرار في العمل والسعي لتطوير الذات وحثها على بذل المزيد من المحاولات استجابة لقوله تعالى"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم"، وقد يكون مع هذا السعي تعبٌ ونصب وجهادٌ واجتهاد وتكرار محاولة، ومع ذلك فلا يجوز الاستسلام للفشل.

كانت هاجر تسعى لتطلب ما تبل به ريقها وريق صغيرها ومع ذلك لا يتحقق لها شيء ولا ترى أي بوادرٍ على تمام سعيها على الرغم من أنها كررت سعيها مرات ومرات، ثم بحركة بسيطة من ولدها الصغير الرضيع ينبع ماء زمزم التي غدت أعذب وردٍ مقصود على مر العصور، فقد يعمل الإنسان ويخطط ويسعى ويستفرغ كل ما بوسعه إلا أنه لا يصل إلى النتيجة التي يريد وقد يبذل جهدا بسيطا فتأتيه النتيجةُ الطيبةُ أكثر مما كان يطلب!

الله تعالى قادرٌ على أن يطعمك ويسقيك ويعلي قدرك دون تعب، ولكنه كلّفك بالسعي في هذه الحياة من أجل تحقيق مراده عز وجل "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا"، فواجب عليك أن تأخذ بأسباب السعي وكأنها كل شيء ثم تترك النتائج على رب الأسباب وكأنها لا شيء وعليك مع ذلك المواصلة ومن الله عز وجل العونَ والصلة..

ثالثا: يوما عرفة والنحر

في عرفة يقف الحجيج منيبين إلى ربهم يتضرعون له بالدعاء والرجاء، فيكرمهم الله عز وجل بالعفو والتوبة ويمحو صحائف أخطائهم ويُبدّلها تعالى إلى حسنات وهذا من كرم الله وجوده، فهم ضيوفه، وفي هذا الموقف يصغر الشيطان ويندحر، فهو قد سعى سنوات وسنوات من أجل إغواء العبد وملأ صحيفته بالسيئات، فيمحيها الله تعالى للعبد خلال ساعات معدودة، فتضيع فرصته في سبيل شقاء هذا المؤمن ويذهب جهده سدى!

وإلى مزدلفة يفيض الحاج شاكرا لنعمة الغفران مستغفرا من التقصير والنسيان "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"، استغفارا من قلة الشكر لأنعم الله تعالى وآلائه واستغفارا من لحظات غفلة القلب والجوارح عن الإنابة والذكر.

وتأتي بعد ذلك صبيحة يوم النحر، ذلك اليومُ العظيم الذي تجتمع فيه العديد من شعائرِ الحج، وهنا يبدو السيرُ على الطريق ذاته الذي سار عليه أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام الذي وجّه وجهَه لله حنيفاً وما كان من المشركين، فقد استسلم أبو الأنبياء لرؤياه -ورؤيا الأنبياء حق- ولم يتردد في أن يتِلّ ابنه الوحيد للجبين من أجل أن يذبحه استجابة لأمر الله، ولم يدّخر الشيطان جهدا من أجل أن يُثنيه عن ما نوى، لكنه عليه السلام كان يرميه بالحجارة، من هنا يرمي الحاج الحصى في مشهد رمزي على أن الشيطان الرجيم لا يُجَادل ولا يُناقَش؛ بل يجب التعامل مع وسوسته بالحسم والحزم والمبادرة إلى الطاعة والانشغال بها عن خطوات زيغه وإغوائه!

لقد استسلم أبو الأنبياء عليه السلام لأمر الله وحصل التسليم التام الذي أراده الله تعالى في قلب الأب إبراهيم والابن إسماعيل عليهما السلام، فكانت النتيجة أن عطّل الله تعالى عمل السكين فلم تقطع، كما أن النار لم تحرقه بأمر الله في شبابه، من هنا فإنَّ الحاج بعد أن يستسلم لأمر الله ويعقد العزم على ملازمة تقوى الله والاستجابة لأمره ونهيه، فإنه يضحي بهدي مستذكرا بذلك كبش إسماعيل عليه السلام و"لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ".

في رحلة الحج تتجلى رحمات الله، وتتنزل مغفرته وعفوه، وهي رحلة تُطوى فيها صحائف السيئات وتُبسط معها صحائف الحسنات، وحريٌّ بالحاج أن يستشعر معاني هذه الشعيرة العظيمة ويتفكر في أسرارها، ويسمح بآثارها النفسية والفكرية أن تطرأ على مستقبل أيامه في هذه الحياة الدنيا ليلقى الله تعالى على طهارة حجه ونقاوة قصده فإن"منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ".

تعليق عبر الفيس بوك