الأجرة

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

لم يكن العمل للكسب سابقًا كما هو الحال عليه اليوم عندما كان الاعتماد على النفس بنظام الاكتفاء الذاتي الفردي هو القاعدة العامة في الحصول على أدنى الضرورات المعيشية؛ إذ تطور بمرور الزمن حتى دخل في مرحلةٍ تعايشية مع الطبيعة في بادئ الأمر واستغلال مواردها ثم تطويعها تبادليًا حسب حاجة المجتمع في أساليب تكافلية ذات طابعٍ إنساني يهدف إلى تشارك وتقاسم الموارد.

لكن مع وجود فائض في الإنتاج بات من الضرورة إيجاد حلولٍ تساعد على إدارتها، ولتنشأ من بين كل ذلك أفكار تطورية لاستثمار الوفرة والاتجار بها وتأجيرها مع بروز شيء من التخصص على مستوى المهن والأعمال والإنتاج والذي سيتأثر به كل شيءٍ في المستقبل وسيصبح السمةُ العامة للتجارة والصناعة والعلوم، وستدخل معه المجتمعات في عصر جديد من التقسيم لفئاته على هيئةِ شرائح وطبقات في النظام الإقطاعي والذي كان يعتقد بأنه راسخ كالجبل، حتى إذا تعملق عليه جبل الثورة الصناعية تمخض الجبلان فأنجبا ديناصور الماركسية الاشتراكي والذي جوعته الرأسمالية فيما بعد حتى أطاحت به منقرضًا ثم ألقت به إلى متاحف التاريخ مُحنَّطًا.

تعتمد حياتنا اليوم على ما يشبه التأجير إلى حد كبير وخصوصًا في حالات الشراء بالتقسيط، إذ إن التملك في مثل هذه الحالة يكون جزئيًا على شكل اقتراض وليس تملكًا كاملًا كالشراء النقدي المباشر دفعة واحدة وبسعر أقل من السعر الآجل، فتتناقص ملكية البائع وهو المالك الفعلي تدريجاً مع تزايد تحصيله لقيمتها، يقابله تزايد معدل الاستهلاك حتى تؤول السلعةُ المرهونة أخيرًا إلى الشاري وهو المالك الشكلي وقد فقدت الجزء الأكبر من قيمتها السوقية وهذا تشارك تأجيري طويل الأجل ينتهي بالتملك.

لم يكن مفهوم اليد العاملة قديمًا قد استغلظ مثلما هو عليه اليوم، ولم يستوِ على سوقه عندما كان يفتقر إلى أبسط المعايير الإنسانية ومعتمدًا على الرق والاستعباد وليس الاستئجار، وقد بُني ذلك المفهوم وتغلغل في الثقافة العامة بسبب ملاحظات بعض الحكماء الأقدمين، حتى ترسخ ازدراء بعض الأعمال والمهن في الأذهان كالصيد والزراعة في مُقارنة فجةٍ غير نزيهةٍ مع ما سموه بالأعمال النبيلة كالقتال والفروسية والفلسفة وقد جانبتهم الحكمة في هذا المعتقد حسب اعتقادي، ذلك بأنهم جعلوا السُخرة أداةً من أدوات الإنتاج مع نظرةٍ دونية تُهضم معها معظم الحقوق وتنافي الكثير من القيم الإنسانية السامية.

لن يُمانع كُلٌ منِّا أو معظمنا اليوم من تأجير خدماته، وما الوظيفة إلا نوع من تأجير المجهود البدني والذهني المتفق عليه عرفًا وتعاقدًا، ولا أميل إلى إطلاق كلمة عبودية على العلاقة الوظيفية كما يحلو للبعض ذلك التشبيه لأنَّ قرار العتق بيد المالك لا المملوك، ولكني أفضل تسميتها بما هي أهله وما سُميت به كونها علاقة تشاركية مبنية على تداخل المصالح وتبادل المنافع مع إمكانية إنهائها اختيارًا دون إكراه.

لا يتغير المبدأ الإنساني في مفهوم العمل للكسب كونه جزءًا أصيلا يمس معيشته مسًا مباشرًا، ومَنشدا مباحا من مناشد رفاهيته، فالإنسان من حيث هو كائنٌ من نوعٍ متطور متأقلم، ومذ كان وهو يحاول تحقيق أكبر المكاسب بأبسط الجهود وأقل التكاليف وهذا هو أصل تسيده على سائر الأنواع في كل المراحل التي مرَّ بها، وما أطلق هو عليها لاحقًا من مسمياتٍ وتعريفات كالبدائي الحجري والبرونزي الحديث وما إلى ذلك من معرفاتٍ دلالية عايشها على مر العصور وصولًا إلى المرحلة التقليدية الكلاسيكية التي تلت ماقبل الميلاد فعصر النهضة والصناعة إلى حاضرنا اللامع والمسمى بالعصر الحديث، ويبدو أنَّ لمعان هذا العصر قد بدأ بالخفوت التدريجي مع ثورة تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وقد تسمي الأجيال القادمة عصرها بما بعد الحديث أو عصر الذكاء مع ما يُظهره أحيانًا من غباء في خضم التسابق المحموم للسيطرة عليه وتسخيره كما سخر الإنسان القديم موارده، ثم توجيهه بحسب شرائح وفئات المجتمع وبحسب الطلب والمتطلبات مع لمسة مشوبةٍ باستعباد حديث ومغلفٍ بغطاءٍ وهمي يسمى الحريات الشخصية، لتُفتح عمدًا من خلاله ثغراتٍ تُمرر أجنداتٍ لا أخلاقية ونشر ثقافة الرذيلة وفرضها على العالم جبرًا ولن تقطع رقبة الآبق منهم أو الفاسق وإنما ستُحظر حساباته الإلكترونية وتُجمد.

لن أطيل أكثر مما سبق في توصيف سوداويات العصر القادم؛ فهي لا تعدو كونها تكهناتٍ أو محض استقراء بُني على معايشة الحاضر وقد لا تُصيب، ولننتقل بساعتنا الزمنية إلى اليوم ونُركز بإحداثياتنا الجغرافية على موقعنا؛ عندما خُيل لي أنَّ الشمس في كبد السماء وتتعامد على رأسي مع أنَّ الساعة لم تتجاوز السابعة صباحًا بعد منتصف شهر يونيو بيومٍ واحد، فكان ظل مثلث اللوحة الإرشادية يمثل جنتي الوردية على جانب مفترق طريق سياراتٍ فرعي، وأقرب شجرةٍ لا تبعد عني سوى 200 متر تقريبًا على الجهة المقابلة، ولكني أراها كالكوكب الدري على مقاييس درجة الحرارة الحالية، كما أن ظلها لا يخدمني حين أقف طلبًا لسيارة أجرةٍ وأخشى من زيادة اشتراطات صاحبها عندما يقلني من الجانب الآخر وبكُلفة قاسيةٍ في بعض الحالات التي تستغل النُدرةَ والظرفية ولسان حاله يقول "تريد خذ وادفع أو تحمل نار هجري".

"السلام عليكم"، وهكذا أقول عند ركوب سيارة الأجرة بجانب قائدها الفذ والعَرق إلى هامتي عند السابعة والنصف صباحًا، ليرد السلام باقتضابٍ وهو منهمكٌ بكيل سخطهِ على زحام المرور، ولا يتردد في التهكم على بعض السائقين باعتبار نفسه أكثرهم فهمًا في أنظمة وقوانين المرور وأقدرهم إجادةً في القيادة، ولم تسعفه سرعة بديهته واحترافيته بزيادة درجة تكييف الهواء لإنقاذ الراكب الغارق في عرقه بجانبه، أو قد يكون ذلك في اعتقاده المتقادم نوعًا من التوفير للوقود وهو ليس كذلك، وعلى كل حالٍ هو يسعى للكسب مع أكبر قدرٍ من التوفير وإن كان ذلك على حساب راحة المستأجر.

على الكرسي الخلفي ليوم آخر أجدني أكثر راحة ولا أمانع من اعتباري عصفورًا ثانيًا قنص بنفس سيارة الأجرة، طالما أني بعيد عن محور الحدث والنقاش المُحتدم بين السائق والراكب بجانبه، وما أروع فن الإنصات عندما نوقن بأهميته ونتمكن من تطبيقه فعليًا وذلك ماقمت به دون الحاجة إلى تصنعه كما يفعل بعض الموظفين المتفاعلين وجهًا لوجه مع العامة وتكشِف لغة الجسد تصنعهم، وكان السكوت والإنصات مبلغ فعلي مع نظرات السائق الخاطفة في المرآة الأمامية حتى وصولي إلى إحدى الجهات الخدمية التي يؤمها حشود المراجعين يوميًا، وقد توسلت ريالًا في جيبي وكانت الأجرة أعلى قليلًا بحسب مقاييس مجتمع سيارات الأجرة التي لم أحسن فهمها مع كل محاولاتي السابقة، إلا أن مالك السيارة القديمة قد سامحني من ضريبته الخاصة وأكتفى بما قدمته له وربما يكون السر في صمتي أو أن أقساط السيارة لم تعد تؤرقه فقد أصبح مالكها الفعلي.

نُلاحظ مؤخرًا هدوءًا نسبيًا في شكاوى الملاك الفعليين وشبه الفعليين لسيارات الأجرة، وقد يعزى ذلك إلى دخول نظام الحجز الإلكتروني حيِّز التفعيل وهذا تطوير جيد جدًا ومن شأنه تذليل الكثير من الصعاب وترويض التحديات التي كانت تواجههم وخصوصًا مع محاولات بعض الوافدين المشاركة في هذه المهنة واقتحام المجال بصورة مستترة في سياراتهم الخاصة وتقاسم المنافع، ولم أعِ ذلك في عدةً صباحاتٍ ساخنةٍ وظهرياتٍ مستعرةٍ عندما أشير بيدي للكثير من سيارات الأجرة بالتوقف ولكنهم لا يفعلون، حتى علمت من أحدهم وهو في منتصف العمر بأنهم يعتمدون على الحجوزات المسبقة ومن تكرم بالوقوف إنما يفعل ذلك زيادة في الأجر والأجرة، أو أنه لا يجيد استخدام نظام الحجز عبر التطبيق، ويسترسل في الحديث: لقد عملت بهذه الشركة 20 عامًا ولم يتعدَ راتبي الشهري عتبة 500 من الريالات؛ فسألته ألا تكفيك سيارة الأجرة كدخلٍ إضافي؟ وياليتني لم أسأل فقد كان الجواب أطول من هذا المقال كله.

قد ينظر البعض بازدراءٍ إلى بعض المهن والتي تبدو في ظاهرها بسيطة ولكن تخفى ضرورتها البالغة وحيويتها على من لم يعايشها أو يتفاعل معها بشكل مباشر، وهي مهمة لبقائنا على المستوى المطلوب من الرفاهية والتبسيط والتسهيل، إلا أن بعض ممن يمتهنون تلك الأعمال هم من يعكسون صورة سلبية عنها من خلال تعاملهم ولا ينطبق هذا القول بالضرورة على العموم وإنما القلة، وهذه القلة هي الهدف الملحوظ والذي  يظهر غالبًا، وكذلك يجد معظم الناس ضالتهم النقدية في القلة المخالفة.