لماذا.. وماذا أقرأ؟!

 

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

 

من خلال اختلاطي بالناس الذين يقرأون لاحظت أنّ هناك اهتمام محمود بالقراءة، ولكن عندما أسأل عن نوع الكتب التي يقرأونها؛ فالإجابة غالبا ما تكون كتب التنمية البشرية وتطوير الذات، من الطبيعي أن نميل لقراءة كتب معينة ولكن من غير المنصف في حق أنفسنا أن نحصر قراءتنا في جانب ضيق دون الانفتاح إلى بقية المعارف.

كما لاحظت الالتباس عند البعض بين القراءة النقدية والإضاءة النقدية والخلط بينهما من حيث المفهوم والتطبيق، وأرجع هذا إلى نفور الإنسان من النقد؛ ولكن نقد النصوص يجب أن يستند إلى أحد المناهج النقدية المعروفة أو إلى أدوات القارئ وخبرته المتراكمة دون مجاملة أو تهكم على النص، أمّا الإضاءة النقدية فهي تهدف إلى تسليط الضوء على نصوص معينة للترويج الراقي وتوجيه الأنظار إليها، وقد تحتمل التساهل بالنقد بعكس القراءة النقدية التي لا تحتمل المجاملة.

كثيرون هم الكتاب الذي يتركون الأثر في نفوس القراء ويظل القارئ يتذكر أثرهم كلما رأى موقفا أو قرأ موضوعا مشابها.

ويعدّ الفضول من أهم دوافع القراء؛ حيث إنّ شريحة معينة من الناس يقرأون بدافع الفضول؛ فالبعض لديه فضول مصاحب بإضافة معرفة والبعض دون الاهتمام بالمعرفة.

والقارئ الذي يقرأ بدافع اكتساب المعرفة؛ غالبا هو مهتم بالبحث العلمي أو بالبحث الأدبي ويكون حريصا على الاستفادة وإضافة ماهو جديد إن استطاع.  

هناك من يقرأ للاستمتاع بالقراءة وهذا برأيي يختلف من قارئ إلى آخر؛ فهناك قارئ يحاول أثناء قراءته تذوّق اللغة والأسلوب ويكتشف مواطن التشويق في النص ويبهره ذلك ويستمتع به، وهناك القارئ السطحي الذي يشعر بعد قراءته للنص أنَّه أمضى وقتاً وتوصل فقط إلى الأفكار العامة.

تمر القراءة المنهجية للنصوص بمرحلتين الأولى: عبارة عن مرحلة اللقاء الأول بين القارئ والكتاب ويتم فيها استكشاف النص وتقوم على الملاحظة التفحصية للشكل الخارجي ثم الداخلي للكتاب ووضع الفرضيات الأولية حوله، ثم ينتقل القارئ من الملاحظة العامة إلى القراءة؛ فيعمل على تصحيح الفرضيات الأولوية حول الكتاب وردود الأفعال ويكتشف المكونات السيميائية للنص والأنساق ويبدأ بتمشيط النص.

الثانية: عبارة عن القراءة التأملية ودائمًا التأمل يقود إلى التحليل، في هذه المرحلة يبدأ القارئ بالجمع بين الفضول والاستمتاع والشغف والتحليل للوصول إلى فائدة أو إلى نتيجة، وقد يقوده تأمله إلى نقد النص والمتخصص في النقد أو القارئ الذي يمتلك أدوات منهجية نزيهة لا تحتمل المجاملة يصل إلى النقد الحقيقي للنص.

وبعد قراءة كتاب ما، يُفترض أن يسأل القارئ نفسه سؤالا طويلا ومركبا: هل كان الكتاب جديرا بالقراءة وكيف كانت لغة وأسلوب الكاتب، وما مدى الترابط وكمية التشويق في النص إن كان النص أدبياً، وما حجم الفائدة إن كان النص علميا، هل استطعتُ كقارئ فك الرمزيات وقراءة ما بين السطور، هل أضاف النص بعض المفردات إلى معجمي اللغوي، هل كان للنص نصيب من البلاغة، أو على قدر من المعرفة العلمية إن كان علميا، وكيف كانت استراتيجيات الحوار وملاحظة السرد والشخصيات وأبعادها المختلفة والحبكة، والزمكنة والأبعاد السياسية والاجتماعية والنفسية التي وضع فيها الكاتب موضوعه، هل استطاع وضع القارئ فيها؟

بناءً على الإجابة عن تلك التساولات يمكن أن يحكم القارئ على جدارة الكتاب بالقراءة من عدمها، وعلى حجم المعرفة التي اكتسبها من الكتاب، وعلى الأثر الذي تركه الكتاب في نفسه بعد قراءته.

هناك أثر تتركه النصوص على قارئها؛ فالكاتب الذي يستطيع أن يجعلك تتخذ من نصه مسكنا لك تعيش في زمانه ومكانه الذي اختاره وفق الحالة الاجتماعية والسياسية والنفسية للنص مع شخوص تتألم لألمهم، وتبتسم لابتسامتهم، تشعر بنبرات صوتهم عند الحديث وتتخيل هيئاتهم وفق الوصف الذي وضعه لهم؛ فهو كاتب يترك الأثر في نفوس القراء، على سبيل المثال لا النقد استطاعت رواية دلشاد للكاتبة بشرى خلفان أن تترك فيني الأثر بعد قراءتها، رواية ضخمة وعمل قيّم، شعرت أثناء القراءة بأنني بلوشية في مرحلة تاريخية قديمة ورقعة جعرافية انقسم فيها النَّاس بين غني وفقير، متذوّقة للجوع ومتآلفة مع العطش ومتصالحة مع النتانة، النتانة ذاتها التي استطاع الكاتب باتريك زوسكيند في رواية العطر أن يجعل جميع حواسي تتحول إلى حاسة الشم؛ فتشم سوق السمك وكل النتانة الموجودة في نفايات فرنسا وعبق الفتاة الضحية وروائح مختلف العطور كما وصفها الكاتب.

كما دخلت المكان الأحقافي وعشت تفاصيل التفاصيل في الكهوف ومبارك الإبل، ورأيت فيه القصف والنار وتناولت الكبسة مع شخوص الرواية على موائد الصخور المسطحة وتعرفت إلى هيئاتهم عن طريق وصف الكاتب وعشت حالة الفقر وضيم العيش والتخلف والخوف والبسالة التي أوصلها الكاتب محمد الشحري للقارئ ببراعة.

ما أودّ أن أصل إليه هو أنّ علينا أن نختار بعناية ما نقرأه وفق استراتيجية معينة يضعها القارئ لنفسه أثناء القراءة؛ فيشعر بعد نهاية القراءة أنه قرأ كتاباً، وإن أراد نقد المحتوى فعليه أن الاعتماد على منهج نقدي معروف أواعتماد أدواته المكتسبة من خبرته بعيدا عن المجاملة الأدبية.