اقتصاد المعرفة.. نحو تنمية مستدامة شاملة (1- 5)

 

د. إبراهيم بن عبدالله الرحبي **

ibrahim1alrahbi@gmail.com

 

رؤية "عُمان 2040" نموذجًا

أخذ اقتصاد المعرفة في السنوات الأخيرة يكتسب أهمية كبيرة في مناقشات السياسات الخاصة بالتنمية والعولمة وإعادة الهيكلة الاقتصادية للدول. وفي الواقع تشارك الحكومات في البلدان المتقدمة والعديد من البلدان النامية في البحث عن السياسات التي تعزز العناصر الأساسية لاقتصاد المعرفة، والتي تتجلى في تطوير: التعليم والتدريب وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتنمية البحث العلمي والابتكار، والنظم والقوانين الإدارية الحكومية الملائمة والداعمة. كما تساهم المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية، والبنك الدولي واليونسكو أيضا في نشر مفهوم اقتصاد المعرفة وتشجيع وتسهيل وضع سياسات فعالة في هذا الجانب.

ويستند التفاؤل بشأن أهمية الاقتصاد القائم على المعرفة على الأدلة التجريبية للدول والشركات التي تؤكد ان إنتاج المعارف واستثمارها بات يلعب دورا بارزا في بناء الثروات وتعزيز التنافسية. وفي الواقع، هناك إدراك متزايد في جميع أنحاء العالم بأن الاقتصاد القائم على المعرفة أضحى يوفر فرصا جديدة للنمو الناتج عن تسارع وتطور تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وإلى ظهور شكل جديد من أشكال التنمية الاقتصادية العالمية تعتمد أساسا على مفهوم الاقتصاد القائم على المعرفة، والقائم على  إنتاج المعارف وحيازتها ونشرها واستخدامها الأمثل.

وعلى الرغم من هذا الاهتمام الموجه إلى تعزيز الاقتصاد القائم على المعرفة كبديل مناسب للتنمية الاقتصادية المحتملة، إلا أنه لا يوجد الإطار الجاهز الذي يمكن على ضوئه وضع استراتيجية ملائمة لطرحها أمام صانعي السياسات الاقتصادية، لا سيما في البلدان النامية. ولئن كان هناك تراكم كبير في الخبرة في هذا المجال من منظور الاقتصادات المتقدمة بشكل أساسي، فإن الكثير من هذه الخبرات ليست للتطبيق المباشر في البلدان النامية نظرا للتفاوت في مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وطبيعة التحديات التي تواجهها هذه الدول.

ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هناك خاصيتين مهمتين لأدبيات اقتصاد المعرفة. الأولى: أن دراسات هذا الاقتصاد جديدة نسبيا بالمقارنة مع الدراسات الاقتصادية التقليدية، والثانية أنها منحازة نحو البلدان المتقدمة، إذ إن معظم هذه الدراسات تركز على الاقتصادات المتقدمة. ولم تتوسع هذه الدراسات لتشمل البلدان سريعة النمو والنامية إلا في الآونة الأخيرة. ومع ذلك فقد خصصت حصة الأسد من هذا التوسع الأخير لدراسة الاقتصادات الناشئة التي حققت نموا كبيرا وسريعا، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية والهند. أما غيرها من البلدان النامية، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فلم تتم دراستها إلا في إطار الدراسات الإقليمية للمنظمات الدولية المتخصصة فقط ومؤخرا على مستوى بعضا من هذه الدول.

وتبني سلطنة عُمان لاقتصاد المعرفة يطرح معه فرصا جمة نظرا لاكتمال استعدادها لاتخاذ مثل هذا الخيار في ظل تبني رؤية "عُمان 2040" والتي يمكن القول إن مكوناتها الأساسية وأهدافها تنسجم تماما مع التحول نحو إقتصاد المعرفة. كما أن المصادر الطبيعية الحالية من نفط وغاز ومعادن قادرة على دعم مثل هذا التحول والتطور الذي قد يبدو مكلفا في بدايته لكنه أكثر ملاءمة لاحتياجاتها التنموية المستدامة حاضرا ومستقبلا. وإذا ما رغبت سلطنة عُمان في الاستفادة من هذه الفرص التي يتيحها التحول إلى الاقتصاد المعرفي والتي- كما أسلفنا- تقع ضمن نطاق قدرتها، فإنه يتوجب الإسراع في مواءمة المؤسسات والهيئات والتشريعات التنظيمية الهادفة لتمكين تنفيذ رؤية "عُمان 2040"؛ لتكون في نفس الوقت الداعمة لهذا التحول الإيجابي القائم على أسس اكتساب المعادلة الفاعلة في إنتاج المعرفة ونشرها واستخدامها الأمثل. ذلك أنه ليس من الحكمة المجازفة بإضاعة هذه الفرصة طالما أن ممكنات إقتصاد المعرفة قد تم تحديدها و تبنيها ضمنيا من خلال الإستراتيجية الوطنية المعتمدة للتنمية الشاملة والمستدامة "عُمان 2040".

وقبل الدخول إلى مكونات رؤية "عُمان 2040" وربطها بممكنات إقتصاد المعرفة، لا بد ان نتطرق إلى تعريف اقتصاد المعرفة، ونشاته، وتطوره، ومكوناته الرئيسة التي تولد اقتصادا مبنيا على المعرفة .ذلك أن التطور الاقتصادي عبر التاريخ  مر بعدة  مراحل أساسية متطورة بدءا بالعصر الزراعي (المرحلة الأولى)، والعصر الصناعي (المرحلة الثانية) وصولا إلى اقتصاد المعرفة (المرحلة  الثالثة) التي انبثقت منها الثورة الصناعية الرابعة الحالية والذكاء الإصطناعي. حيث نلاحظ في هذا القرن تضاءل الميزة النسبية للعناصر الاقتصادية التقليدية المتمثلة في الموارد الطبيعية ومعدلات القوى العاملة، ليصبح للمعرفة والتكنولوجيا والمهارات البشرية الدور الأهم في التنمية المستدامة.

ووفقًا لأدبيات اقتصاد المعرفة فإن هناك أكثر 98 تعريفًا ومصطلحًا تُعرِّف اقتصاد المعرفة استنادًا إلى درجة تقدم الدول في ركائز ومؤشرات هذا الاقتصاد.  ولكن يمكننا اختصار ذلك وإيجاد تعريف مشترك؛ حيث إن اقتصاد المعرفة هو نظام اقتصادي وتنموي يكون فيه خلق المعرفة وتوزيعها واستخدامها المحرك الرئيس للنمو والقدرة التنافسية والتنمية. وتعد المعرفة المتجددة والمعلومات من أكثر الموارد قيمة، ويتم استخدامها لإنشاء منتجات وخدمات وعمليات جديدة؛ بما في ذلك التكنولوجيا والاتصالات والتمويل والرعاية الصحية والتعليم والبحث والتطوير. بمعنى أن الميزة التنافسية وتكوين الثروات للأفراد والشركات والدول أصبح يميل أكثر لمن يتبنى سياسة المعرفة والتكنولوجيا المتطورة. وما قائمة أغنى أثرياء العالم والشركات الأكثر قيمة في الأسواق العالمية وتجارب دول مثل سنغافورة وتايوان واليابان وتشيلي إلا تجارب ناجحة وماثلة للعيان لنماذج اقتصاد المعرفة.

وسوف نحاول في الجزء الثاني من هذه السلسلة، التطرق إلى ممكنات اقتصاد المعرفة وسبب اختيارها وملاءمتها لسلطنة عُمان معززة بالتجارب والدراسات الدولية التي يمكنها أن تساهم في زيادة فرص نجاح مكونات رؤية "عُمان 2040"، وفي نفس الوقت تقود سلطنة عُمان إلى تبني الاقتصاد القائم على المعرفة وصولاً إلى التنمية المستدامة الشاملة التي تستهدفها الرؤية الحالية.

 

** متخصص في اقتصاد المعرفة

تعليق عبر الفيس بوك