"هيئة الوثائق" تجادل الزمن (1)

 

د. مجدي العفيفي

 

(1)

 

ثلاثة أيام.. بآلة قياس الزمن الطبيعي، لكنها ذات سعة عالية تختزن آلاف السنين بمقاييس الفكر والتاريخ والجغرافية والحوادث والتحولات وكعاصمة من عواصم عمان السياسية، وما أكثر هذه العواصم المتحركة ليس فقط عى الصعيد المحلي بل على مسار المشاهد الإقليمية و على أصداء الأحداث الخارجية شرقا وغربا وجنوبا وشمالا.

ثلاثة أيام.. قضيتها في محافظة جنوب الشرقية، وبالأخص في ولاية «صور» وهي من أكثر الولايات العمانية التي استقطبتي وزرتها منذ بداية عقد الثمانينيات الماضي، زيارات متأنية، بعيون صحفية، وأخرى فكرية، وثالثة تاريخية، وكان الهوى الشخصي يغالبني رغم محاولاتي المستمرة والمستعرة بتحقق المعادل الموضوعي بين الذات والموضوع.

ثلاثة أيام.. في هذه المنطقة تلبية لدعوة ثمينة من هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية للمشاركة في ندوة انضوت تحت عنوان "محافظة جنوب الشرقية في ذاكرة التاريخ العُماني" بولاية صور خلال الفترة من 23 إلى 25 مايو 2023)، وطُرحت على بساط البحث والحوار والجدل في أجوائها 27 ورقة علمية عرضها ثلة من الباحثين من عمان ومن أكثر من دولة عربية، وتجادلنا حولها كثيرا، وجرت مداخلات مائزة بلغة الأعماق البعيدة، سواء من أصحاب الأوراق أم من أشواق الحضور، أخذا وعطاء في جوار وحوار، وعنفوان روح علمية وعملية.

(2)

وقبل استقطار رحيق هذه الأوراق، التي كثفها الدكتور حمد بن محمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، كرجل تاريخ ومؤرخ في هذه القنينة التاريخية بحضارتها وحاضرها، يحسن بنا أن نتوقف عند مهاد، تفرشه المناسبة، مهاد يتحاور فيه الذاتي بالموضوعي، الفكري بالصحفي، التاريخي بالجغرافي، الحضاري بالحاضر، في لحظة راهنة مضفرة بثنائيات كثيرة كقانون من قوانين الزوجبة، والكون قائم على الثنائيات.

تستلقي مدينة« صور» على شاطىء «بحرالعرب» الذي تتحاور أمواجه مع صفحات المحيط الهندي منظومة، فيها من البحر والتجارة، والتاريخ والحضارة، ما يجعل لهذه المدينة، رحيقا يمنح المسافر، زادا من الشوق والتحديق في «ما وراء» المتحرك على صفحة البحر، أو في وجوه الناس، وفي المعاني قبل المباني؛ إذ ترتقي «صور» مكانة فيها الكثير من الخصوصية، على خريطة الخليج الاجتماعية والسياسية والبشرية والبحرية، خاصة في معالمها العريقة التي تشكل جذورها، بشواهدها الحضارية القديمة، ومشاهدها الحضرية الحديثة.

وإذا كان لكل مدينة كبيرة شخصيتها، فإن مفتاح شخصية مدينة صور، هو «البحر» بخيراته وخبراته، بتجاربه ومغامراته، بشواطئه وأمواجه، بثوراته وثرواته، بحوادثه وأحداثه،ومن ثم تتضاءل تلك المقولة الخادعة التي أبعدتنا كثيرا عن الاهتمام بالتراث البحري العربي، في شكله الرسمي وبعده الشعبي على السواء، والتي تزعم أن: «العرب أهل صحراء فقط، وأنهم قهروا الصحراء بالجمل، وقاموا بالرحلات الدائمة من شمال الجزيرة العربية في رحلتي الشتاء والصيف، فاهتممنا بعالم الصحراء، وركزنا جهودنا لفهم الشخصية العربية على حياة الصحراء، وما تتركه من آثار اجتماعية وسلوكية وثقافية في نفسية ومكونات الإنسان العربي، ونسينا تماما أن رحلتي الشتاء والصيف، تنقلان السلع والتجارات بين الشام واليمن، أو بين الساحل الشمالي المطل على البحر الأبيض، والساحل الجنوبي المطل على المحيط ولم تكن الشام ولا الجنوب العربي، هما هدفي الرحلتين وإنما كانتا مجرد نقطة انتقال عبر المحيط إلى أوروبا في الشمال، وإلى الصين والهند في الجنوب حتى تكتمل الدائرة وتتحقق أهداف رحلات الصحراء». (طبقا لفاروق خورشيد، في بلاد السندباد، دار الهلال، 6891، ص52 القاهرة)

وعمان بدورها البحري عبر التاريخ قد«أكملت الدور الذي قامت به منطقة الشرق الأدنى حضاريا وتاريخيا، هي شريك بلا شك في كل ما قام فيها من حضارات سواء عند الطرف الشرقي في منطقة ما بين النهرين من حضارات بابلية وآشورية وأكادية، أو ما قام فيها من حضارات على الطرف الشمالي من حضارات كنعانية وفينيقية، أو ما قام فيها من حضارات عند الطرف الغربي من حضارات فرعونية وهلينستية، أو ما قام فيها من حضارات عند الطرف الجنوبي الغربي من حضارات حْميرية وسبئية، هي شريك ـ لا شك ـ في كل هذا، كما هي شريك أيضا في الثورة الإسلامية الكبرى، التي قامت في وسط الجزيرة، وقدمت للعالم كله الحضارة الإسلامية ذات العطاء الديني والثقافي والحضاري معا.

(3)

تتجلى المنطقة الشرقية عامة، وجنوبها خاصة، جناحًا خفاقًا بين الأجنحة الكبرى التي تحلق بها خريطة سلطنة عمان، جغرافيًا وطبيعيًا وبشريًا، بما تشكله من جذر تاريخي، وبما تمثله من مد حضاري، وامتداد حاضر، وبما ترمز إليه من جماع تشكيلة من الشواهد التي ـ وإن تمايزت ـ إلا أنها تتآلف داخل المنظومة العمانية، بتكويناتها ومكوناتها وتجلياتها.

تتجاور في المنطقة الشرقية ثلاثة ملامح بيئية، تمنحها لمحات من الخصوصية، فهناك الملمح البحري، ثم الملمح البدوي، ومعهما الملمح الحضري، وكلها تتجادل لتتكامل، وتتفاعل لتتقابل، على امتداد إحدى عشرة ولاية، يتحرك في مناكبها، أكثر من ربع المليون نسمة، في ولايات صور، وبدية، والمضيبي، والقابل، ودماء والطائيين، والكامل والوافي، وجعلان بني بوعلي، وجعلان بني بوحسن، ووادي بني خالد، ثم جزيرة مصيرة.

تتجاوز المنطقة الشرقية في شهرتها الحدود القُـطرية، في التاريخ والجغرافيا بالدور المشهود الذي لعبته مدينة«صور» في تعزيز هذه المكانة، ومن ثم فقد حق لها أن يطلق عليها«درة الساحل الشرقي» كمنفذ إستراتيجي، يمثله أسطولها البحري تجاريا واقتصاديا، وتوصف أيضا بأنها «بوابة عمان الشرقية» باعتبارها نقطة تقاطع حضارية، وملتقي تاريخي للطرق البحرية، حتى أن (مالك بن فهم الأزدي العماني) اتخذها عاصمة لمملكته عام 0052 قبل الميلاد، لكن تظل التسمية الودودة هي (صور العفية) بجدالها مع الأيام والتاريخ، وحوارها مع البحر والبر، وتحركها بين التجارة والحضارة، ومؤثراتها في الثقافة والسياسة.

تتكاثر في ولاية صور معالم كثيرة وملامح عديدة، ومن أجملها منطقة «رأس الحد» التي منحتها الطبيعة ميزة متفردة، دون كل مناطق الشرق الأوسط، فهي أول بقعة تشرق عليها الشمس فلكيا، وهي أيضا محمية طبيعية للسلاحف الخضراء، ليس فقط على المستوى الإقليمي بل على الصعيد العالمي، ثم أنها تعتبر حامية للسفن الشراعية، عند هبوب العواصف، خاصة أنها ذات مدخل متعرج، مما جعلها مكانا ملائما لإنشاء مطار، إبان الحرب العالمية الثانية، ليكون ملجأ تلوذ به الطائرات عند الحاجة، ولا تزال معالم هذا المطار قائمة حتى الآن. (3)

(4)

تتجلى في مدينة صور، ثقافة المدينة كأوضح ما تكون شواهد هذه الثقافة، حين تتجول في شوارعها وميادينها وحاراتها ومعانيها التي تدثرها مبانيها، وأينما وليت وجهك في جنبات هذه المدينة تتراءى أمام عينيك ملامح الجمال المعماري الشرقي، الأمر الذي لفت انتباه باحث غربي مثل«دونالد هولي» ليقول عن مدينة صور، في كتابه الموسوعي عمان ونهضتها الحديثة7791 ص391، إن لها تميزا معماريا، أنتج أشكالا في الهندسة المعمارية والزخرفية الخارجية، وأن هذه الأشكال تعكس سهولة الحياة وهدوءها، واستقطب أيضا عيون باحث عماني، مثل المهندس سعيد الصقلاوي - في اطروحته صور عبر التاريخ، النتدي الادبي  ثقافة المدينة6991 - ليستغرقه ـ طويلا ـ الدوران حول هذه الثقافة،راصدا تجلياتها، قارئا مشاهدها، في إطار بحثه العلمي والجمالي عن ثقافة المدينة، وعن دور التفاعل المشترك بين مدينة صور باعتبارها إطارا جغرافيا وبيئيا، وموروثا ثقافيا، وبين الفعل والنشاط الإنساني في صور، آخذا ومعطيا، منتجا ومصدرا، لمفردات الثقافة، ومعطيات الحضارة، في حدود وخارج محيطه، وهذا الفعل الاجتماعي يتجلى في الثقافة الأدبية والفنية والدينية والصناعية والزراعية والاجتماعية والسياسية والعمرانية والتخطيطية، وهذه المستويات الثقافية تنقسم- جغرافيًا- إلى ثقافة بحرية وهي المرتبطة بالنشاط البحري، وثقافة برية وهي المرتبطة بالحضر والفلاحين والبدو.

(5)

ماذا قالت الأوراق السبع والعشرون التي احتوتها «هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية»؟ التي دأبت على التعريف بالجوانب الحضارية والتاريخية والثقافية والفكرية لسلطنة عُمان وتاريخها التليد، وطبقا لمنظور الدكتور حمد الضوياني في إضاءته الثقافية الباهرة، كمصابح للندوة - فقد كشفت لنا الوثائق والشواهد التاريخية ما حققه الإنسان العُماني على مدار الحقب التاريخية المختلفة، فأولت الهيئة اهتمامها في توثيقه ورصده واستغلاله الأستغلال الأمثل في الدراسات والبحوث العلمية إدراكًا منها بأهمية تحقيق الأهداف المرجوة والغايات المنشودة التي ترتكز على إبراز دورنا الحضاري والفكري وعلاقاتنا الدولية ودور المجتمع العُماني واسهاماته في بناء التنمية المستدامة المتكاملة، وعلاقات المجتمع التي أتسمت بصفات حميدة وخصائل كريمة وأفعال يُضرب بها المثل في التراحم والمودة والوحدة واللحمة الوطنية من أجل الوطن أرضًا وشعبًا.

سنرى في الحلقات القادمة.