فن الرثاء في شعر حمد الطائي

 

ناصر أبوعون

 

 

◄ مراثي الشاعر حمد الطائي تقطر حكمة وتضيء مسرجة قصائده

◄ العواطف الجياشة والإحساس الصادق وآلام الفراق.. من أبرز صفات مرثيات الطائي

رثائيات الطائي تتضمن رؤية فلسفية ترتكز على فناء الجسد وخلود السيرة الحسنة

 

إنّ مطالعة مراثي الشاعر حمد بن عيسى الطائي، تنزُّ ألمًا، وتقطر حكمةً، وتصفو مشربةً، وتُضيء مسرجةَ قصائده، حيث تعلو فيها العواطف الجيّاشة فوق المجاراة أو المجاملة؛ لأنها صادقة الإحساس، صادرة عن نفس أقضّ مضجعها الفراق، ونهشت سويداء أوجاعها مناقير طيور الموت، التي غرست مخالبها في قلب شقيق كان يسند ظهره إليه في المُلمات، أو صديق كان يركن إليه في الكُربات. ومعها نتذكر قول الأعرابيُّ عندما سُئل: "ما أجود الشعر عندكم؟ فأجاب: ما رثينا به الآباء والأبناء؛ ذلك أنّا نقوله وأكبادنا تحترق"([[1]]) وفي هذا المعنى نقرأ للطائيّ مقطعا من قصيدة بعنوان: (خولة ماتت فأذكت مهجتي) ينعي فيها خولة بنت يوسف الكندي نظمها يوم 25 من شوال 1366هـ قال فيها: [(خولة ماتت فأذكت مهجتي // وسقاني موتها كأس الحمام)، (فهي للخطب حسام باتر // يفرج الهَمَّ إذا هَمَّ الأنامُ)،(وهي للخلق مثال كامل // ولأيام الهنا بدر التمام)].

قصيدة شمس المكارم في رثاء الشيخ حمد الطائي.jpg
 

الموت يختطف "شيبة الحمد"

وعلى نموذج المثال السابق نطالع العديد من القصائد الرثائية، والتجارب الواقعية التي ألمّت بالشاعر حمد الطائي على إثر فَقْدٍ اخترمَ آجال إخوته، وأبلى أجساد أصدقاءَ عمره، وأفنى أرواح رفقاء رحلته على غِرّة. فقد اختطفهم طائر الموت واحدًا تلو الآخر، فأدمى قلبَه، وكسر عودَه، وأحنَى ظهرَه، وأجرى دمعَه، وأشوى وَجْده. وفي هذا المعنى أنشد راثيا (محمد بن عبد الله بن حميد السالميّ) المُكنَّى بأبي بشير والملقّب بـ(شيبة الحمد) ابن العلامة والفقيه العُماني نور الدين السالميّ:[(وإذا ذكرت عهود أنس عشتها // في كنفكم فدموع عيني دماء)، (لله ما أقسى الحوادث دائمًا // يصلى لظاها الخيرة النجباء)، (ما مات من بالحمد خلد ذكره // ولنا بأشبال له لعزاء)]. وفي هذه القصيدة الآنفة الذِّكر "تبرز معانٍ جليلة، قلَّما تتكرر عند أمة من الأمم غير العرب، وهذه المعاني تُمثل المثالية التي عُرِف بها الإنسان العربيّ، وإلا ما الدافع من وراء ذلك إن لم تكن نُبلًا وأخلاقًا وشهامةً واعترافًا بفضل الغير، ويمكن القول بأن هذا الرثاء يمثل الجوهرة النفيسة اللامعة في عتمة الليل، وكأنه الثقب الذي ينفذ من خلاله ضوء العدل والإنصاف، وهذا كله نابعٌ من كون الشاعر في الرثاء بمنأى عن النِّفاق والخداع"([[2]])

مجمع أفكار الرثاء الطائية

فإذا ما أمعنا النظر في قصائد الرثاء الطائية وخاصةً (الأُسريّة) التي نظمها الشاعر حمد الطائي في إخوته وأقاربه سنجدها دارت على أفكار ثلاثة: مفتتحًا إياها بالحديث عن (فلسفة الموت)، والعِبرة من النهاية الحتمية لكل كائن حيّ يدبّ على هذه الأرض، ثم يبث الشاعر أبياتًا من (الحكمة) يستنطق بها الرضا في النفوس، والإيمان بقَدَرِيّة الفراق الذي لا مناص من التسليم به، ثمّ يجمع في ثنايا القصيدة أبياتا متفرقات توضح (سمات المرثي) والحسرة على مفارقته.

وإذا كانت الكثير من الأدبيات أجمعت على أنّ "الرثاء الأسريّ نوع من الشعر الحزين يتجلّى فيه الألم والأسى بكل وضوح فيهزّ وجدان المتلقي برنينه المثير الذي يشبه النواح والعويل، ويستشف منه اللهفة الحارة والحزن العميق، وكأنها صرخات قلب مقطّع وأنّات صدر موجوع مكلوم"([[3]])، إلا أن هذا المعنى لا نعثر عليه عند الشاعر حمد الطائي فهو يتحوّل كثير من النحيب والبكاء إلى الفلسفة والعبرة وتكثيف معاني قصيدته على سمات المرثي على نحو ما قرأنا له في قصيدة بعنوان: (يا قلب بالفراق وحشتنا) نظمها في رثاء شقيقه المرحوم صالح بن عيسى الطائي الذي وافته المنية إثر نوبة قلبية يوم الجمعة الموافق 28/09/1990 يقول فيها:[(قالوا أتبكيه بدمع هاطل // ومقامه في الخلد طاب مآل)، (فأجبتهم نبكي شتاتا بعده // في الأهل والأحباب فهو مثال)، (فلكم تطوع للمسير مغامرًا // في حل مشكلة وهان محال)، (ولكم تفانى كي يصحح هفوة // فيها تعالى القيل والأقوال)]. ولإبراز أفكار وموضوعات مراثي الشاعر حمد الطائي وجب التفصيل في هذا المقام على النحو التالي:

(أ) فلسفة الموت

يُقرر الشاعر حمد الطائي في جُل رثائياته رؤية فلسفية واحدة تتلخص في أنّ الجسد يرحل ويذوي، وتبقى السيرة الحسنة لصاحب الذكرى، وما خطته يد القدر من تاريخ ناصع، وما سطرته مواقفه الإنسانية في صفحات التاريخ شاهدة على رسالته التي أُوكلت إليه منذ نفخة الروح في بدنه، وكيف ظل يكدّ السير في تحقيقها إلى أن وضع عصاه، وغادر الدنيا الفانية ورحل إلى عالم الخلود الأبدي. وفي هذا المعنى يقول الشاعر راثيا أخاه القاضي والأديب هاشم بن عيسى الطائي: [(ما كان هاشم غير بدر معارف // وبه تسامى العلم والأخلاق)، (لهفي عليه في الثرى جثمانه // من بعد أن دانت له الأعناق)، (الشرع يبكيه بدمع هاطل // وبمثله في الدين عزّ لحاق)، (لهفي على المحتاج بعدك من له // فلبحر فضلك إنه توّاق)].

(ب) الحكمة

الحكمة هي ميراث التجارب، وصنيعة المواقف، وأثر من آثار مجاراة الحياة أو الصراع مع أضدادها، ومغالبتها، والتسابق في الانتصار والانتصاف لنفسه منها، أو الخضوع لقوانينها، والتسليم بشراستها، والإشادة بمن أعلو كعبهم عليها فلم تفتّ في أعضادهم، ولم تحوّلهم عن مرادهم ولم ينكسروا أمام جبروتها، وهذا ما نجده عند الشاعر في قصيدة (خولة ماتت فأذكت مهجتي)، وهي قصيدة من الرثاء الصوفي نظمها في المرحومة- بإذن الله تعالى- خولة بنت يوسف الكندي. [(وهي للمال عدو فاتك // طبعها الجود على مرِّ الدوام)، (صور الحسن بها آياته // فيها الحسن خليق بالهيام)، (تعبد الله بقلب خاشع // عندها الدهر صلاة وصيام)]. "فما انفك الراثون يكثرون من إيراد الحكم والأمثال ويبثونها في ثنايا مراثيهم، لأخذ العبرة والعظة، ولأن موقف الحزن والأسى ومجالس العزاء تتطلب ما يسكن لهيب الحزن، ويخمد تفجر العواطف. وأقوال الحكماء الموروثة النابعة من تجارب إنسانية عميقة، تتفق مع هذا الواقع وتنسجم معه، فما أكثر ما يصوغ الشعراء أقوالا مأثورة عُرفت منذ القدم لرجال عظام، جابهوا قساوة الحياة، وناطحوا شظف العيش ومكائد الدهر، فتمخضت قرائحهم عن أقوال تنبض بالحكمة، درجت بين الناس فاستقبلوها وقدروها"([[4]])

(ج) (سمات المرثي)

في كل قصيدة (مرثية) للشاعر حمد الطائي أورد سمات المرثي بشيء من التكثيف، دون إفراط في الوصف، خروجا من حيز المجاملة التي اعتادها الكثير من الشعراء، وارتكز على الصفات المشهورة بين الناس عن الميت، والدعوة إلى اتخاذه قدوة حسنة، ونموذجا يُحتذى به أمام الأجيال المتتالية. ونجد هذا المعنى في رثائه للشيخ محمد بن عبد الله السالمي- رحمه الله- وهي من القصائد الطوال التي نظمها الشاعر، إلا أنه اكتفى بذكر صفات المرثي في بيتين فقط يقول فيهما: [(لم لا وهل كالسلمي محمد // في الفضل والتقوى له العلياء)، (للحق دين الله كرس عمره // وكذلك كان السادة الآباء)].

أنواع شعر الرثاء

وبالبحث في أرشيف الشاعر حمد الطائي ومخطوطة ديوانه عثرنا على الأنواع الثلاثة من الرثاء المتعارف عليها في تراثنا العربيّ التليد، حيث أكثر الطائي من (العزاء والتصبّر والتجلّد) في مواجهة الموت، وقد يرجع هذا لما اكتسبه من حكمة أورثتها له التجارب التي عاشها متقلّبًا بين ظهراني البلاد والعباد في حواضر الخليج العربيّ بغية تحصيله مؤونة العيش الكريم، بينما ندرت في تراثه الشعريّ قصائد (الندب والبكاء الحارّ) وربّما يرجع ذلك لسمات شخصيته المُقبلة على الحياة، والمفارقة لكل ما يُكدّر صفو روحه المرحة. في حين تأتي قصائد (التأبين) في منطقة وسطى ما بين (العزاء) و(الندب) وهي نوع من المراثي تفرضها ضرورات الحياة القبليّة، والرسميّة، والعلاقات الاجتماعية على الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، نظرا لطبيعة القرابة والأنساب والمصاهرة السائدة.

(أ) العزاء والتصبّر والتجلّد

في قصيدة الشاعر حمد الطائي التي يرثي فيها (خولة الكندية) يخاطبها بعدما رحلت إلى الدار الآخرة، وكأنما يخاطب نفسه معزيا، وداعيا إلى التجلّد أما هذا الخطب الجلل، والتحلي بالصبر لكون المرثية انتقلت إلى النعيم الأبديّ بعدما أفنت حياتها في رضا ربّها. و"في هذا الشعر تخفّ حدة الصدمة، ويعود الشاعر إلى نفسه ويفكّر في الكون، وخالقه، والوجود والعدم. لذا غالبا ما تكون معاني هذا النوع رثاء حكمة كما تتسم بالعمق وتتصف عاطفته بالحكمة" ([[5]]) ونجد هذا المعنى في هذين البيتين اللذين اختتم بهما قصيدته: [(أنت يا سلوان كوني بردا // لفؤادي بعد خطبي وابتسام)، (دمتِ يا سلوان للقلب مني // وانعمي يا خول في دار المقام)].

(ب) التأبين في رثاء الأعلام

لقد برع الشاعر حمد الطائي في قصائد (التأبين)، وقلنا إنها جاءت في مرتبة وسط من حيثث الإحصاء العددي ووقعت ما بين غرضي (العزاء) و(الندب) وقد فرضتها ضرورات الحياة القبليّة، حيث علاقات القربى والنسب والمصاهرة، وأوجدتها العلاقات الرسميّة، نظرا لما يتمتع به المرثي من مكانة سياسية واجتماعية وما تقلّده من مناصب، وما ورثه من ألقاب، وما كان يقوم به من دور اجتماعي أو علميّ. وهذا "الشعر أقرب للمواقف الرسمية، وفيه تتزاوج العاطفة مع المجاملة، ويرثي فيه الشاعر ذوي الجاه والسلطة من أمثال العلماء والوزراء، ويجتهد الشاعر في تعديد مناقب الميت وصفاته"([[6]]) "كما يتخذ هذا النوع من الرثاء شكل الثناء على الميت، وذكر مزاياه، ومكانته الاجتماعية، وتعداد محامده، فهو أشبه بالمدح، ولا يختلف عنه سوى بالإشارة إلى أن الكلام يُقال في ميت"([[7]])، وهذا المعنى نعثر عليه في قصيدة رثائه للشيخ محمد بن عبد الله السالمي- رحمه الله- التي يقول فيها: [(يبكيك محراب بليل دامس // وكذاك قوم للجماعة شاءوا)، (آراؤك المثلى لقد خلّدتها في // "نهضة الأعيان" فهي سناءُ)].

(ج) الندب في رثاء الأقربين

هذا الغرض لم يكثر فيه الشاعر حمد الطائي؛ غير أن قصيدته في رثاء أخيه الشيخ القاضي هاشم بن عيسى الطائي جاءت ممثلةً لهذا الغرض، وربّما يرجع ذلك لمكانة المرثي العلمية والفكريّة في سلطنة عُمان، فضلا عن دوره داخل القبيلة حيث كان بمثابة عمود خيمة العائلة، وإليه المرجع والمآل في كثير من شؤونها، وقد ورث هذه المكانة عن أبيه الشيخ عيسى بن صالح الطائي قاضي قضاة مسقط، والمستشار المُقرّب من سلاطين عُمان وذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى وفاته. وفي هذا الغرض يعمد الشعراء إلى "النواح والبكاء على الميت بالعبارات المشجية والألفاظ المحزنة التي تصدع القلوب القاسية، وتذيب العيون الجامدة، إذ يولول النائحون والباكون يصيحون، ويولولون مسرفين في النحيب والنشيج وسكب الدموع"([[8]]). ومن مأثور ما جادت به قريحته قوله: [(بدر المعارف قد علاه محاق // وكذا البدور تألق فصعاق)، (ما كان هاشم غير بدر معارف // وبه تسامى العلم والأخلاق)، (لهفي عليه في الثرى جثمانه // من بعد أن دانت له الأعناق)، (الشرع يبكيه بدمع هاطل // وبمثله في الدين عزّ لحاق)].

الصورة الشعرية في مراثي الطائي

إذا ما دقق القاريء في مراثي الشاعر حمد الطائي وخاصة لأهله وذويه، سيجد (التشبيه البليغ) الذي تنبني فيه الصورة الشعرية على ركنين اثنين فقط، وهو من أفضل الصور وأغناها بالتعبيرات، ثم تأتي الاستعارة التصريحية في المرتية الثانية وهي مشتقة من التشبيه البليغ، فضلًا عن الاستعارة الشائعة في هذا المقام وهي الاستعارة المكنية المشبّعة بالمجازات والانزياحات اللغوية، وفي معظم مراثيه"تتباعت الصور الشعرية وكأنما هي شريط سينمائي، مصور يستعين الشاعر به، ويجمع فيه القصة والصورة، فبدت نابضة بالحركة والأصوات والألوان، وساعده في هذا العرض خيال منظم هاديء"([[9]]). وقد جاءت هاتيك الصور في تصانيفها العامة على خمسة أنواع يمكننا تفصيلها على النحو التالي:

(أ) الصورة التعبيرية أو الرمزية

في هذا النوع من الصور الشعرية نرى الشاعر يعمد إلى الانعتاق من لغة الجسد، والتعبيرات الجسدانية و"يتجاوز حدود الدلالة الحسيّة الضيقة ويعتمد على الإيحاء الرحب وليس على تقرير الأفكار، أو بسطها"([[10]]) ومن بليغ ما نحته من صور شعرية في هذا النوع قوله في رثاء (خولة الكندية): [(ولتذوبي أنت يا نفس أسى // خلصيني من تباريح السقام)، (أنت يا شعر أجزني نغمة // تجعل الشعر لأحزاني مدام)].

(ب) الصورة المغصّنة أو النامية

يعتمد الشاعر في بناء معمار قصيدته على صورة شعرية نووية تبدأ صغيرة، ثم تنمو وتتفرّع مثل أغصان الشجرة و"تتدرج في النمو حتى تصل إلى نهاية إيجابية أو سلبية، وهي أشبه ما تكون بنمو الشجرة من البذرة إلى أن تصير شجرة ويدركها الذبول والفناء، ويجب أن يكون النمو عضويا، وإلا أصبحت صورًا تفسيرية لا نحس فيها بالحياة الداخلية"([[11]]). وفي هذا المعنى نعثر صورة شعرية قائمة على ركنين أساسيين تمثلت فيما يسمى بـ(التشبيه البليغ) تتمركز في مطلع البيت الثامن من قصيدة له رثا فيها (شيبة الحمد) أبي بشير السالميّ؛ قائلا: (الرضى حياتكم)، ثم قام الشاعر بإنماء الصورة، لتتولّد عن (التشبيه البليغ) صورة ثانية هي (للعارفين منارة شماء)، ثم ينتقل الطائيّ بـ(الرضى) إلى صورة ثالثة في قوله: (شمس عدل)، ثم تنمو الصورة مع الانزياح لتتحول بـ(الرضى) إلى صورة رابعة في قوله:(سلاح مجاهد)، ثم يرتقي الشاعر بالمعنى إلى صورة خامسة، وهي (غيث فضل)، ثم يصل بالصورة إلى قمة النمو حيث يتحوّل (الرضى) إلى (ثراء). وقد استحوذت هذه الصورة النامية والمغصّنة على مساحة بيتين متتاليين هما: [(يا "شيبة الحمد" الرضي حياتكم // للعارفين منارة شماء)، (هي شمس عدل أو سلاح مجاهد // أو غيث فضل للجميع ثراء)].

(ج) الصورة المشهدية أو الممتدة

هذا النوع من الصور يشبه المشاهد السينمائية التصويرية، حيث يجمع المشهد الواحد العديد من اللقطات التي تتداخل مثل الفسيفساء لتتكوّن منها في النهاية لوحة واسعة تمتد وتتسع "حيث يستغرق الشاعر في تفاصيل المشهد ويتتبع عالمه، ويرصد حركاته، فتمتد الصورة خلاله امتدادا مطردا، لتصل في النهاية إلى صورة متكاملة"([[12]]) وفي مطلع رثائه لـ(شيبة الحمد) يصور الطائي المسجد الذي غصّ بالمشيعين الذين أتوا من حدب وصوب، يونتقل بنا من صورة إلى أخرى حتى يكتمل المشهد [(يا مسجدا غصت به الأفناء // والناس طوعا نحوه قد جاءوا)، (لم لا وهل كالسلمي محمد // في الفضل والتقوى له العلياء)، (للحق دين الله كرس عمره // وكذلك كان السادة الآباء)، (أفديك من بدر بساطع نوره // دخل المحاق فعمت الظلماء)، (يبكيك محراب بليل دامس // وكذاك قوم للجماعة شاءوا)].

(د) الصورة التركيبية أو المتتابعة

وفي هذا النوع من الصور يقوم الشاعر بتركيب مجموعة من الصور الشعرية المتتالية مثل قطع الليجو حتى يستطيع بناء مشهد شعري واحد متكامل العناصر، ومن هذه الصور قوله:(حسام باتر)، (مثال كامل)، (بدر التمام)، من قصيدته في رثاء (خولة الكندية) التي يقول فيها: [(فهي للخطب حسام باتر // يفرج الهَمَّ إذا هَمَّ الأنامُ)، (وهي للخلق مثال كامل // ولأيام الهنا بدر التمام)].

(هـ) الصورة الثنائية أو المقابلة

وهذا النوع من الصور يتم نحتها في مادتها الخام الأولية من فن البديع، وصولا إلى إنتاج مجموعة من الجمل (الصور) المتقابلة في معانيها، والألفاظ المتضادة في مبانيها، ولكنها في الأساس تنبني على ركائز الصورة الشعرية لا الصنعة اللفظية وهي من الصور السهلة والمطروقة بكثرة عند معظم الشعراء ولا تحتاج إلى عناء في تكوينها، ومنها قوله: [(أفديك من بدر بساطع نوره // دخل المحاق فعمت الظلماء)] [(بدر المعارف قد علاه محاق // وكذا البدور تألق فصعاق)].

 

([[1]]) المحاسن والمساويء، البيهقي، تحقيق محمد سويد، ص: 391، بيروت 1995

([[2]]) المثالية في الرثاء الجاهلي، دراسة وتحليل صدام صالح الحمادي، مجلة جامعة الأنبار للغات والآداب، 27 كانون الأول، ص:14، 2018

([[3]]) الرثاء عند شعراء الحلّة، أسعد النجار ورائدة جابر، مجلة بابل للدراسات الحضارية والتاريخية، المجلد 2، العدد: 2، كانون الأول 2012

([[4]]) قصيدة الرثاء عند ابن الروميّ، دراسة موضوعية، وفاء عثمان الفوتي، رسالة ماجستير، كلية اللغة العربية، جامعة أم القرى، ص:63/64

([[5]]) انظر: شوقي ضيف، الرثاء، دار المعارف بالقاهرة، ص: 12

([[6]]) انظر: المرجع نفسه، ص:12

([[7]]) انظر: سعد بوفلاقة، دراسات في أدب المغرب العربيّ القديم، ط1، ص: 106، 2007

([[8]]) المرجع السابق ص: 12

([[9]]) الصورة في شعر الرثاء، صلوح السريحي، رسالة دكتوراه، كلية التربية للبنات بجدة 1998، ص: 162

([[10]]) الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، محمد فتوح أحمد، دار المعارف بالقاهرة، ط2، ص:306، 1978

([[11]]) فن الشعر، د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت ط6، ص: 250، 1979

([[12]]) الصورة الشعرية في شعر بشر بن أبي خازم الأسدي، إعداد سرحان القرشي، جامعة أم القرى، كلية اللغة العربية، رسالة دكتوراه.