علي بن سالم كفيتان
يتعاظم الشعور بأنَّ سلوكنا تجاه تطوير وتنمية مدننا يكون لأجل الآخر، وليس من أجلنا، ويتجلى هذا في الصراع المحموم للجهات المختصة مع معظم الأحداث في حواضرنا العُمانية، فترى أعمال الصيانة والتجميل تجرى على قدم وساق لتستعيد بعدها شوارعنا بهاءها بلونها الأسود الفحم وخطوطها البيضاء والصفراء وتسعدنا الزهور الممتدة على الشوارع العامة والمتنزهات والساحات العامة ببساطها الأخضر الزاهي، وبعد انجلاء الحدث تسحب الخدمات والتسهيلات وأعمال الصيانة وكأنَّ مدننا لم توجد من أجلنا.
عندما نأتي إلى محطات الخدمات في تلك المؤسسات خارج المواسم، يستقبلك موظف محبط في دائرة خدمات المراجعين لا يكاد ينظر إلى وجهك وأنت تكلمه، وبعد أن تدس أمامه طلبك لرصف طريق أو توفير إنارة أو حتى تحسين مستوى النظافة العامة أو رفع مستوى صحي أو تربوي أو مد خدمة المياه لأحياء لا زالت تروى بالتناكر منذ عقود أو غيرها من الأمور التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية، يجيبك ذلك الموظف القابع بأريحية تامة خلف مكتبه البارد، أنه لا توجد موازنات مالية، وأن هناك حالة تقشف، والمشاريع متوقفة، وبعد إلحاح ومجاملات كثيرة يدقق في الطلب ويقلِّب الورقة رأسًا على عقب، ويقول: "عشان خاطرك برفعها"، وفي هذه المرحلة يُدخلك في كومة إجراءات رفع الطلب مثل رقم هاتفك والرقم المدني... إلخ؛ فالأمور كما يقول صاحبنا "مش هينة"؛ بل تخضع لخطط قطاعية وأخرى فرعية وأولويات وطنية وبقية التفاصيل التي لم أفهما، لتعود أدراجك بعدها فاقدًا الأمل في تحقيق ما ذهبت لأجله.
وعلى النقيض تمامًا وفي غضون أسابيع ترى كل تلك المفاهيم تنقلب أمامك ليسود انفتاح غير مسبوق، فترى شوارع تُرصف وأعمال تجميل ولوحات دعائية في معظم أرجاء المدينة ومنتديات وندوات ومؤتمرات وورش عمل يتم الترويج لها عبر المنصات الرسمية ومواقع التواصل الاجتماعي واستقدام طواقم لدعم معظم الجهات الرسمية والأهلية؛ فالجميع في تأهب، بينما طلبي لا زال في الخطط القطاعية وتوابعها!
إن مثل هذا النوع من السلوكيات الذي بات كالعُرف آن الأوان لتغييره، بحيث نبني مدنًا من أجل ساكنيها أولًا، لا من أجل زوارها، وأن تكون جميلة ومنسقة وهادئة وبها خدمات مكتملة ووسائل ترفيه عصرية وأسواق متخصصة ووسط مدينة يحمل هويتها الحضارية وأحياء سكنية مفعمة بالحياة ومناطق طبيعية بكر يجد فيها ساكنوها الرعاية والاهتمام قبل الزائر، ليقدم هو بدوره خدمات تتناسب مع طموحنا، وتساهم في ترسيخ تجربة لا تُنسى لمن زار عُمان. وإذا أوفينا بذلك نكون قدمنا أنفسنا للعالم بالشكل الذي يليق. ولو نظرنا لتجارب الغير وخاصةً في مجال صناعة السياحة، نجد المدن والمواقع المستهدفة في تلك البلدان تنعم بالتخطيط المُلهم ودقة متناهية في التفاصيل. ما زلت أذكر حديث زميل زار هولندا مايو الماضي وعن تجربة 17 مليون إنسان يتناغمون بشكل نادر مع دولة معظم أراضيها عبارة عن أخوار تقع تحت مستوى سطح البحر، وكيف تم تهيئتها بشكل دقيق لينتمي لها إنسانها أولًا ويستمتع بها زوارها ثانيًا، وهنا يكمن السر فيما بات يعرف بأنسنة المدن... فهل نحن نسير في هذا الاتجاه؟
ما نراه للأسف يمكن تسميته بالنفاق المؤسسي المتجذر، فكل ما يُصنع يكون لغاية محددة مهما بلغ مستوى الخدمة وقيمة التكلفة بعيدًا عن الاستدامة وبعيدًا عن إسعاد صاحب المكان، ولذلك نرى مدن مظلومة لا يُقام فيها حدث موسمي أو مناسبة عامة ونادرًا ما يزورها وفد، أو تمر بها شخصية مهمة، ولم تسعفها الظروف للولوج لدائرة الاهتمام، رغم مقوماتها العالية؛ فهي تعيش في سكون عجيب تجد عند مدخلها لوحة محافظة لتظهر لك قرية، ولا تشعر إلّا وهي تودعك بلوحة أخرى. إن فهمنا لأنسنة المدن لم يتشكل بعد رغم التوجيهات السامية لمولانا جلالة السلطان- أيده الله- في هذا الشأن وآخر تلك التوجهات الكريمة هي إنشاء مدينة السلطان هيثم الذكية في مسقط... فهل سنشهد مدنًا مماثلة في حواضرنا العُمانية أم سيظل التميز حليف العاصمة؟
أعيشُ في صلالة منذ نصف قرن واعتبرُ شاهدًا على العصر ومتابعاً لتطورها وتنميتها وأستطيع القول إن السلطان الراحل- عليه رحمة الله- خطط لصلالة لتحتفظ بجمالها وبهائها وتسمو بجبالها الشامخة وهضابها الفسيحة وبسوقها العريق "سوق الحافة"، الذي تم استبداله بكبرة قديمة وشريط من الكافيهات التي لا تمت بصلة لهوية المدينة؛ حيث يصل فيها قيمة كوب الشاي بدون سكر إلى ريالين وقطعة "كيك" لقضمة واحدة بـ4 ريالات، فعلمت أن مدينتي لم تعد لي بعد اليوم... إنهم يجمّلونها في "كوافير الخريف"، وأعود أنا بعدها لشارع دون معالم ومدينة بلا هوية.