العُزلة الفكرية.. تفجّر الطاقات الخفيّة

 

زكريا بن حسن الحسني

 

دراسة الظواهر الإنسانية تتطلب البحث في الباطن وليس الظاهر فحسب، كما تتطلب البحث في الأسباب والمسببات، وما هو الفعل الذي يؤدي إلى سلوك مُحدد مُعين، كل هذا لا بُد من أن يُأخذ في الاعتبار لأجل الوصول إلى دراسة مترامية الأطراف؛ فالدراسات القائمة على قواعد وأسس تكون متينة وراسخة ومعتمدة للأخذ بنتائجها، وما تمخضت عنه حول ما ينسجم مع الطبيعة الإنسانية والقوانين الكونية التي لا تتنافى مع الواقع والمنطق.

والتأمل في هذه الظواهر يجعلنا نخرج منها بتفسيرات عديدة لأنماط سلوك محددة والذي تهيأت كل الظروف لأن يكون سلوكا وعملا يمارسه الإنسان. وعندما نتأمل في التاريخ الإنساني ولاسيما تاريخ أؤلئك الاستثنائيين والمبدعين والمخترعين والمكتشفين والفلاسفة والمصلحين، سنجد أن منهم من ظهرت في حياتهم حالة "الانسحاب ثم العودة"، والتي كان لها انعكاسات على تولد القدرات الخفية لهذه الفئة، تلك القدرات التي تكتنفها الأسرار والغموض، والتي كانت السبب في ظهور الكنوز العظيمة من فنون أو علوم أو معارف.

من هنا ينبغي التركيز على هذه الظاهرة (الانسحاب والعودة) لمعرفة أبعادها ونتائجها وكيف تساعد على تصفية أذهان أصحابها لأجل الدخول في مجال الأسرار الكونية وابتكار ما يبتكرونه من معارف واكتشافات. 

الانسحاب والعودة حالة لها أبعاد كثيرة، مثل الرجوع للنفس ومحاسبتها على الأخطاء التي فعلتها بحق نفسها والآخرين، وكم من الفرص التي ضيعتها والتي كانت كفيلة بأن تغير المسار.

ظاهرة الانسحاب والعودة تُساعد المرء أن يخرج بقرارات حاسمة لا يعتريها التردد، ويتمكن من مراجعة القرارات الماضية لأجل تغييرها حاضرا، والأخذ بالأسباب التي أدت إلى النجاح أو الفشل.

الانسحاب مؤثر جدا في عودة المرء إلى نطاق الهدوء لفهم أفضل لنفسه وللمجتمع. في الانسحاب تتجلى أسرار تتنزل على ذهن الإنسان وقلبه. لقد برزت هذه الظاهرة في التاريخ، وذكرتها الأديان والفلسفات الإنسانية على هيئة العودة إلى النفس وتوخي الهدوء مع النفس؛ فبالانسحاب والعودة إلى الذات تتفجر الطاقات الخفية لترتقي بصاحبها إلى أعلى المراتب العرفانية، فلها أثر نفسي وروحي واجتماعي إذ تستعيد النفس ما ضيعته وما سُلب منها بإدراكها الاتجاه الصحيح الذي يؤدي إلى الهدف المحدد والمرسوم.

ومنذ العصور الأولى والإنسان في صراع دائم يبحث عن سر الوجود، وهذا ما يُؤرق المرء كثيرا، ويجعله دائما في حيرة من أمره بين البعثرة والتشتت لا يدري إلى أين، وما المبتغى؟

تأتي ظاهرة الانسحاب التي يمارسها الإنسان في حيرته هذه، فيتدارك نفسه، ويعيش حالة استقرار مع النفس.

لقد أدرك العظماء أهمية ظاهرة الانسحاب والعودة إلى الذات، وعايشوها لتكون مرحلة هدوء، واطمئنان لهم، ففي الانسحاب والعودة إعادة لترتيب الأفكار، ولملمت ما تبعثر منَّا لنرجع أقوى مما كُنا، لذا فالعودة حالة مهمة للغاية.

ويتحدث القرآن الكريم عن قصة اختلاء موسى (عليه السلام) بذاته في جبل الطور؛ حيث يقول الله سبحانه وتعالى {وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [سورة الأعراف: 142] وفي موضع آخر يقول الله تعالى على لسان النبي زكريا ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾[سورة: آل عمران: 41].

وتعبّد النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) في غار حراء بعيدًا عن المجتمع، ويحكي التاريخ أيضًا أن ليوناردو دافنشي انسحب عن العالم في كهف ثم عاد ليخرج لنا هذه الاختراعات والرسومات التي أذهلت العالم.

قد تختلف مسميات هذا الانسحاب والعودة إلى الذات لكن الهدف واحد، وهو استعادة الإنسان لذاته من التشتت، والوقوف أمام مرآة ترى بواسطتها ذاتك التي تكاد تفقدها، أو تكون فعليا قد أضعتها.

لنخفف هيجان الحالة الاجتماعية والبعثرة في الكثرة، بالعودة إلى الوحدة مع النفس والتعايش الهادئ معها.

يقول نورمان فنسنت بيل: "السعادة في الحياة ليست بخوض جميع معاركها، فالانسحاب البارع هو في الحقيقة نصر مؤزر". ويقول باولو كويلو: "الانسحاب الذي يحفظ كرامتك بحد ذاته انتصار". ويقول سيد حسين نصر: "يمكن للنفس البشرية، بشرط أن تكون نقية وقوية بما فيه الكفاية، أن تتصل بالغيب في اليقظة وكذلك في الأحلام: كل ما هو مطلوب هو انسحاب الروح من اضطرابات الحياة الحسية"، وفي الأخير يقول المثل الإسباني: "الانسحاب ليس هروبًا".

تعليق عبر الفيس بوك