التعصب المذموم

 

حمد الحضرمي

محامٍ ومستشار قانوني

 

"ليس منِّا من دعا إلى عصبية، وليس منِّا من قاتل على عصبية، وليس منِّا من مات على عصبية"، هذا ما رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه في الحديث عن رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، والناظر والمتأمل والمتابع يتضح له بما لا يدع مجالًا للشك، بأن العصبية قضية اجتماعية بسببها انتشرت البغضاء، ومنها انبعثت الأحقاد، ولم تدخل مجتمع إلا فرقته، ولا في صالح إلا أفسدته، شبَّ عليها الصغير، وشاب عليها الكبير.. إنها العصبية المقيتة، إنها الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، إنها التعصب للرأي أو للقبيلة أو للمذهب أو للطائفة أو لغيرها، تعددت أنواعها، وتنوعت أشكالها، وساءت تبعاتها، وقُبحت دعواتها، إنها دعوى جاهلية مذمومة.

وسلطان عُمان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- حذر شعبه من التعصب والتحزب والتطرف في خطاب العيد الوطني الـ24 المجيد؛ حيث قال يرحمه الله " إن التطرف مهما كانت مسمياته، والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته، نباتات كريهة سامة، ترفضها التربة العمانية الطيبة، التي لا تنبت إلا طيبًا، ولا تقبل أبداً أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق" لأن التعصب داء وبيل، ومرض فتاك خطير، يمنع الفكر من اكتشاف الحقائق، ويفقد الإنسان القدرة على التعايش مع الآخرين، ويتميز بعدم العدالة وعدم التسامح، لأن أفكار صاحبه أحادية في اتجاه عاطفي جامد، فالتعصب من الأمراض الخطيرة، التي إذا تحكمت في نفوس الناس كان لها أسوأ الأثر في حياتهم، نتائجه بشعة وعواقبه وخيمة، دمرت به أسر، وتهدمت به بيوت، وقطعت به أرحام، وأشعلت به فتن وأريقت بسببه الدماء، والتعصب يسحب الإنسان إلى شروره الكثيرة على طبق من جمر يتوقد، فكم من أناس أوردهم التعصب المهالك، فخسروا القريب والصديق والأهل والأحباب؛ فالإنسان حين يشتد تعصبه يفقد التوازن العقلي والنفسي، ويغيب عنه الرشد والصواب، ويصبح وحشًا ضاربًا لا يدري ما يفعل، لأن دخان التعصب غطى على بصيرته وعقله، فلا يرى خيرًا ولا يسمع نصيحة.

والتعصب ظاهرة عالمية موجودة في أغلب المجتمعات، ومتعددة الأسباب والمصادر التي تظهر فيها، فقد تكون أسباب التعصب دينية، أو مذهبية، أو طائفية، أو طبقية، أو سياسية، أو رياضية، أو اجتماعية، أو فكرية. ويعتبر التعصب حالة مرضية غير سوية على المستوى الفردي والجماعي، فسلوك المتعصب يتميز بالنظرة الحادة الضيقة الأفق، ويتصف بالرعونة والبعد عن التعقل والتصلب في الرأي، والخضوع لسيطرة الإنفعالات الجامحة، والإستعانة بالقيم والعرف الإجتماعي السائد. والمؤمن لا يعرف التعصب، لأنه دائمًا يبحث عن نقاط الإتفاق مع الآخرين، فيعززها ويوسعها حتى تحاصر نقاط الإختلاف، وهو منفتح مع جميع الأشخاص، ويعامل الجميع بإنسانية واحترام وإنصاف، فالمؤمن متميز بمبادئه وثوابته، ويمد جسور التواصل والتعاون مع الآخرين، ويساهم بدينه الحنيف، وقيمه النبيلة، وأخلاقه الحميدة، في بناء أواصر المحبة والإخاء، وتشييد صرح الحضارة الإنسانية على أسس راسخة.

إن التعصب تنمو جذوره في ظل ظروف نفسية واجتماعية معينة يعيشها أفراده، تعمل على انتشاره في بعض المجتمعات دون الأخرى، ويتعلم الإنسان الكثير من أنماط سلوكه عن طريق مشاهدته لغيره وتسجيلها في عقله، فالتعصب بوصفه اتجاهًا نفسيًا تحدده القيم والمعايير، التي يكتسبها الفرد من والديه أو مدرسيه أو أقرانه أو من وسائل الإعلام وسائر عوامل التنشئة الأخرى. فالتعصب إذن يعد نتاجًا اجتماعيًا لم يولد الفرد مزودًا به، ويعتبر الآباء والمدرسون والأصدقاء ووسائل الإعلام هم الذين يلعبوا الدور المهم في اكتساب التعصب، وأن العمل على الحد من التعصب والقضاء على أثاره السلبية من المهام الصعبة والمهمة في الوقت نفسه، وتعد البرامج التربوية التعليمية والرياضية والثقافية والاجتماعية والفكرية أحد العوامل التي تساعد في التخفيف من الاتجاهات التعصبية لدى الشباب، وقد أشار العالم مورجان إلى أن هناك ارتباط بين تعصب الآباء وتعصب الأبناء، وذلك لأن الآباء يدربون أبنائهم على التعصب؛ سواءً كان ذلك بشكل شعوري أو لا شعوري.

ومجتمعنا كغيره من المجتمعات يعاني من بعض مظاهر التعصب المذموم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: التعصب الفكري: وهو شعور داخلي يجعل الإنسان يتشدد فيرى نفسه دائمًا على حق، ويرى الآخر على باطل بلا حجة أو برهان. ويظهر هذا الشعور بصورة ممارسات ومواقف متزمتة ينطوي عليها احتقار الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته، ويرجع سبب ذلك إلى الإعجاب بالذات الذي يلغي الطرف الآخر، ولا يعترف بحقوقه ووجوده ويرفض الحوار معه، ولا يتقبل وجهات النظر الأخرى. ويعتقد المتعصب لرأيه بأن ما لديه من أفكار هي حقائق وثوابت لا يجب التشكيك في صحتها ويرفض حتى مناقشتها، كما يقال في المثل " أذن من طين وأذن من عجين " غياب تام لقيمة الحوار والتمسك بالرأي، بعيدًا عن تفهم وجهة النظر الأخرى، وتجاهل أي رأي آخر يطرح، وعدم امتلاك مهارة الاستماع، ويقول الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"؛ فالتعصب والتمسك بالرأي والمواقف يدمر الأرضيات المشتركة بين الناس، ويهدم الجسور التي بنيت، ويتطلب الوضع منا أن نكسر حدة التعصب بيننا، ولا نحاول الانتصار في كل الاختلافات، ولنتذكر بأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وعلينا تقبل وجهات النظر المختلفة عند طرح الآراء والأفكار، ونشر روح الاعتدال والوسطية، والحث على التسامح والغض عن الهفوات، لأن واقع الأمر يؤكد يقينًا بأن الاختلاف سنة وقانون يسري بين البشر، ولا يمكن أن نتفق في كل رأي وفي كل قضية، ويفترض أن تكون اختلافاتنا اختلافات تنوع لا تفرق، وللبناء والتطوير وليس للهدم والتدمير.

وقال الشاعر:

مهما العقولُ تباينت فيما ترى // تبق القلوب بودها دومًا تفي

هب أن رأيك غير رأيي يا أخي // ما شأنُ ود بيننا أن يختفي

ومن التعصب المذموم: التعصب للقبيلة، وتظهر هذه الظاهرة للعيان أثناء العمليات الانتخابية لاختيار أعضاء مجلس الشورى، والمجلس البلدي، ومجالس الأندية والاتحادات، وغيرها من المجالس التي تطبق فيها نظام الانتخابات، حيث يقع الاختيار للأسف الشديد في الغالب لمن هو من قبيلة أو جماعة العضو المرشح، وهذه هي العصبية البغيضة التي نهى الدين الحنيف عنها، فالعصبية في الإسلام مرفوضة، وأنه يتوجب علينا أن تكون اختيارتنا لمن يمثلنا في مجلس الشورى والمجالس المنتخبة للأصلح، والبعد عن التعصب المذموم والعصبية العمياء الصماء، التي إذا تسللت إلى النفوس، وصارت لها مكانة في القلوب، أصبحت بلية، وهذا التعصب لا يخدم مصالح الشعب، ويكون أداء العضو المنتخب ضعيف لأنه غير مؤهل لهذا المنصب الهام، الذي جاء به التعصب القبلي، والنتيجة فشل ذريع لهذا العضو، الذي لم يستطع تحقيق أحلام وأمنيات من انتخبوه، ويكون سببًا في تراجع الأداء الحكومي، لأنه لا يقوم بالأدوار المرجوة منه بالشكل المطلوب، وتكون مؤشرات ونتائج الأداء الحكومي دون المأمول، الأمر الذي يصيب المواطن بخيبة أمل كبيرة، والسبب الحقيقي في ذلك هو المواطن بنفسه، وذلك لتعصبه للقبيلة واختيار الشخص غير المناسب.

ومن أنواع التعصب المذموم :التعصب الرياضي الذي هو آفة كل الرياضات، وأزمة تواجه كل المهتمين بالأنشطة الرياضية، لأنه يشكل خطورة على تماسك المجتمع ويوسع الفرقة بين أفراد المجتمع الواحد، ويعتبر المتابعون بأن التعصب في لعبة كرة القدم من أشهر الأمراض العصرية وأكثرها انتشارًا في معظم دول العالم، ويأخذ التعصب الرياضي أشكالًا متعددة، يبدأ بالهتاف أو التصفيق أو التشجيع، ويتطور شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى التنابز بالألقاب والتراشق بالسباب وتبادل الإتهامات والاشتباكات العنيفة بين جماهير الفريقين المتنافسين، وتتحرك وسائل التواصل الإجتماعي بين أنصار الفرق المتنافسة، ويسخر أنصار الفريق الفائز من الفريق الخاسر ويتبادلون الشتائم، ويصل الأمر بأن يهجر الصديق صديقه، ويفارق الزوج زوجته، وتتفكك وتتشتت الأسر.

إنه لأمر محزن أن يصل إلى مجتمعاتنا مثل هذا التعصب الهدام الذي يسبب الشقاق والعداوة بين الناس، وقد وقعت الكثير من الأحداث الرياضية المؤسفة التي كان سببها التعصب الرياضي، وراح ضحيتها عشرات من القتلى والجرحى، ويتوجب علينا إعلاء وتعظيم الروح والأخلاق الرياضية في المنافسات والمسابقات الرياضية بين اللاعبين والجماهير، وذلك بتنفيذ ضوابط اللعب النظيف والالتزام بالقيم، وتطبيق الروح الرياضية سواء أكنت منتصرًا أو مهزومًا.

إن الاختلاف من السنن الكونية في الحياة، ويتوجب علينا جميعًا قبول الاختلاف، والاستفادة من الآراء ووجهات النظر المختلفة، والتواضع والتسامح والتعايش السلمي مع الآخرين، وذلك للبناء والتطوير وإثراء الحياة، والبعد عن التعصب بكافة صوره وأنماطه، والتمسك بمبادئ ديننا الحنيف، ونشر وغرس قيم وأسس الشريعة السمحة، التي تحث على الالتزام بروح التسامح والألفة والمحبة. ويجب أن نتذكر دائماً أن التعصب نوع من الجمود العاطفي، ولهذا تتصف الشخصية المتعصبة بالعدائية نحو المختلفين عنا في الرأي أو السلوك. وعلينا ضبط النفس بكفاءة عالية لإدارة الإنفعالات، والتعامل بهدوء مع الإندفاعات الغاضبة والعنيفة، وتجنب أصحاب العقول الصغيرة والنفوس المريضة المتعصبة المتشددة، والبحث دائمًا عن أصحاب النفوس والعقول الكبيرة المتسامحة، لأنهم الشموع التي تنير الدروب بالصدق والوفاء، وتمنح الآخرين الدفء والحياة الكريمة.

والأمر يتطلب وقفة حازمة لمواجهة ومكافحة التعصب، لأنها مسؤولية مجتمعية تبدأ أدوارها أولًا من البيوت في الأسر، ثم المدارس والكليات والجامعات والمساجد والأندية الرياضية والثقافية والاجتماعية، ووسائل الإعلام وهيئات المجتمع المدني، والمؤسسات الخاصة والعامة المعنية بالأمر، والتي يتطلب منها جميعًا التعاون في نشر القيم والمبادئ الأخلاقية، وغرس ثقافة التسامح بين الجميع، لأنها تؤلف القلوب وتصلح النفوس، وتذهب الحزن وتزيل الغضب والتعصب، وتشعر بالرضا والسعادة، وتغرس الخلق والأدب، وتنشر الألفة والمودة في المجتمع، وتعمق أواصر الوحدة بين الناس، وتبعد الأفراد والجماعات عن التعصب المذموم بكافة أنواعه وأشكاله.

تعليق عبر الفيس بوك