الإيلام أشد ألمًا

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

يتربع الحزن على رأس شجرة الانفعالات العاطفية الرئيسة ذات الغصون الست ويليه الخوف والغضب والسعادة والدهشة والاشمئزاز، ومنها تتفرع بقية المشاعر والتي تعد بالمئات، بيد أن الحزن تحديدًا يعتبر من المشاعر الأصيلة في النفس الإنسانية وهو من المحفزات الدافعة للنبوغ والنجاح شرط أن لا يُستسلم له، ومما لا شك فيه أنه مُصاب غير مفتعل ولا يسعى له عاقل، كالفقد والفراق والوحدة والمرض وبما أنه نقيض السعادة فإن كل الناس تحاول تجنب أسبابه وأبسط مسبباته بكل الطرق والوسائل، إلا أنه واقع لكل منَّا لا محاله، وبشكل من الأشكال ولن ينجو أحد من خوض غمار معركة من معارك الحزن والتي تتراوح في عمق ألمها حسب التجربة والموقف والمزاج ونستثني هنا الحزن الزائف والألم المتصنع المقصود بهما كسب منفعة أو تجنب العمل أو رفع الحرج عن إتمام واجبٍ ما؛ ويصعب تفسير الألم لغويًا لإيصال دلالته الحقيقية ما لم يكن فعليًا وتجريبيًا؛ لأنه من الظواهر التي لاتزال غامضة ويعتبر في كل أنواعه إنعكاسًا أو ردة فعل عصبية دماغية بُنيت على فعل واقعي، وبما أن الكل يعرف ويفهم معنى الألم جسديًا وعاطفيًا كونه من الخبرات المكتسبة في سنٍ مبكرة جدًا فإن الأمر لن يتطلب شرحًا فلسفيًا طويلًا ولا إسهابٍ وتعليل حيث تكفي الإشارة إليه كمصدر، ويستمر الإنسان متعاطيًا معه طيلة حياته كما تستمر خبرته به في المتراكم وفي المقابل تتزايد معه الاحتياطات التي لن تضع له حدًا نهائيًا لكنها قد تقلل من شدة وطأته من خلال تجنب الأسباب التي تعرضه للإصابة سواء كانت جسدية أو معنوية.

يتفاوت الناس في قدرة تحمل الألم كما تتفاوت درجة تحمله من شخص لآخر من ناحية السيطرة وطريقة التحكم والمزاج وأسلوب الحياة والحدث نفسه، فمثلًا لاعب كرة القدم قد لا يشعر بحقيقة إصابته في تلك اللحظة لغلبة المحفزات الخارجية والنفسية عليه، بينما نفس الإصابة قد يؤدي ألمها إلى الإغماء عند شخص آخر ولكن في موقف مُغاير لا تعتريه حوافز ذهنية تقلل من نشاط النقل العصبي للألم، ومن الجانب العاطفي فإن كبار السن يظهرون قدرة أكبر على تحمل الألم من غيرهم الأقل عمرًا وفي حال عدم اعتماد عامل المكان والمزاج والخبرة والسن فإنَّ الأقوى إيمانًا يمكن أن يكون أقدر تسليمًا بواقعه قضاء مؤلماً عليه ليواصل حياته بعدها وهو حاملٌ ألم حزنه على ظهره بالمقارنة مع عديم الإيمان الذي لا ملجأ له سوى اليأس والقنوط، فمنهم من يلجأ للعلاجات النفسية أو يقع فريسة المؤثرات العقلية، ومنهم من ينهي حياته والعياذ بالله بالانتحار.

إن المستقبلات الحسية المنتشرة في الجسم هي المسؤولة عن نقل إشارات الألم على شكل نبضات كهربائية تحملها السيالات العصبية بسرعة قد تصل إلى 140 مترًا في الثانية وصولًا إلى الحبل الشوكي ثم الدماغ ليترجمها في ردة فعل عضلي لا إرادي ومضاد وقد يصل الأمر أحيانًا دون تدخل الدماغ، مثل ملامسة سطح ساخن وهذا نوع من الاحتياط الوقائي لتقليل الضرر وهو المبدأ الأساس لبقاء الإنسان سليمًا محافظًا على حياته وصحته ولياقته الجسدية، ولكن هل يمكن قياس كل ذلك على الحوادث النفسية التي تصيب المشاعر والعواطف؟!

لعل ماذكر أعلاه معلومًا وقد دبجت في شأنه أقوال الكثير من الخبراء وأقلام الكتَّاب المرموقين ومنهم على صحائف هذه الجريدة الغراء، ولكن ما أردت الإشارة إليه بعد التمهيد المختصر سالف الذكر هو الإيلام ومصدره ألم، أو تعمد إيقاع الألم بالآخرين؛ حيث بات هذا الأمر ملحوظًا مؤخرًا على عدة مستويات ولا أعلم سبب تعمد افتعاله، هل هو بقصد كردة فعل مبنية على تفكير واتخاذ قرار، أم بدون قصد كردة فعل لا إرادية سببها ما يمر به الناس من ظروف ومنغصات تضيق معها نفوسهم في تحمل الآخر أم هو تشابك مصالح الحياة وكثرة التزاماتها ما أفضى إلى تهميش لياقات التعامل وإحسان الردود من البعض.

لا أتحدث في هذا المقام على الإيلام الجسدي؛ إذ إن من يتعمد إيقاعه بالآخرين هو إنسانٌ غير سوي ومن يتقصده على غيره ليستمتع بآلامه هو بلا ريب مختلٌ عقليًا أو استبدت به نزعة الانتقام واغتالت الكراهية إنسانيته وأعمت بصيرة لبه لأسبابٍ كثيرة وأهمها الحقد والغيظ ورغبة التشفي، ولكني أتحدث هنا عن إيقاع الضرر النفسي من بعض الذين يتعمدون إصابة معنويات غيرهم من خلال أساليب الرد وطريقة التعبير سواءً كانت حركية أو لفظية أو كتابية.

في محاكاة لموقف حدث أمامي لشيخٍ كبيرٍ في السن وفي مكان يؤمه كثير من الناس، مستعينًا بعصاه الغليظة ناصحًا غيره دون مقدمات بتجنب الوقوف في ذلك المكان أو الجلوس فيه، أو متذمرًا تارة أخرى من هيئة آخر في شكله وملابسه التي تتنافى مع العرف السائد والثقافة العامة ولا يتسع الموقف لشرح الأسباب وسرد المبررات، حتى يباغته أرعنٌ جاء يسعى من أقصى المكان بردٍ قاسٍ تعمد به إيقاع الضرر النفسي وإيلام ذلك الشيخ بإصابته معنويًا ثم يُغادره متبخترًا بانتصاره في مشية يكرهها الله ورسوله؛ وفي افتراض آخر يرسل أحد الخبراء رسالة إحصائية توضح شأنًا اقتصاديًا أو غيره من الشؤون وقد لا تخلو رسالته من المطمئنات الإيجابية حتى يتلقفها سيلٌ ممن اتخذوا على عواتقهم عهدًا بإهالة التكذيب وكيل الطعون في مصداقية كل من يقول بمثل هذه الأقوال، وقد يحور أحدهم الموضوع إلى ماهو أبعد من ذلك بعد أن تفكر طويلًا في انتقاء الكلمات الجارحة ليُحكم إصابته ويوغرها عميقًا حتى تُحقق أكبر قدرٍ من الألم معتقدًا أنه جاء بالحق، والحق أنه لا يستند في رده على شيء سوى باطل تقييمات شخصية بناها على ردود وتعليقات من غير أهل الحق، أو تجربة شخصية هزيلة خرج بها فيما يشبه دراسة الجدوى وأعتنقها لينافح بقذاعة كلماته كل من يستشرف المستقبل بالأمل والتوقعات الإيجابية، وهناك من يسانده ويؤازره بالتشجيع والتصفيق إذ فاقت تجريحاته أصدق الإحصاءات وبذت في بلاغتها الأولين والآخرين، وهو ناكص دون أن يشعر في نشوة نصرٍ وهمية غير آبه بمن أصابته عن بعدٍ سهام لسانه وطعنته غيلةً خناجر كلماته.

يزرع البعض غير مبالٍ بذور الألم المعنوي في تربة صالحة لزراعة محاصيل الود والتفاهم، ليحصد عدة مكاييل من الكراهية والبغضاء عوضًا عن أطنانٍ من المحبة والوئام، وقد لوحظ ازدياد عدد المشككين وتماديهم في رفض كل ماهو جميل ومبشر وهم ينشرون بذلك ثقافةٍ لم نكن نعرفها بل كانت مُنكرة حيث إننا نستند على أرضية خصبةٍ من التفاؤل بالخير ولابد أن نجده مع شيءٍ من الصبر.

إذا تمادى الألم بصاحبة وسكن كل نوازعه فحتمًا سيودي به إلى الاكتئاب، وكذلك الخوف إذا استبد بصاحبه وبسط عليه عباءته القاتمة أفرز في دواخله القلق ولذلك أصبح الاكتئاب والقلق من أكثر الأمراض النفسية شيوعًا في عصرنا هذا وهما من أهم المسببات التي تؤثر سلبًا على الروح وطمأنينتها وتنعكس مع استمرارها لفترة طويلة على الجسد بالأمراض، ويقال إن معظم مسببات الأمراض العضوية وعلاجاتها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الحالة النفسية والمعنوية، فما أحوجنا اليوم إلى بث روح الإيجابية ونبذ السلبيين الناقمين على كل شيء من حياتنا وتركهم يسرحون في مسارحهم ويرتعون في مراتعهم يعمرونها ويثمرونها كيفما شاؤوا ثم يجنون حصادها لأنفسهم دون تصديرها إلينا وتسويقها بيننا.