التصفح المميت

 

نور بنت محمد الشحرية

 

إذا كنت من الذين يملكون قلبًا فولاذيًا، أو من الذين لا ينهكون مشاعرهم إلا فيما يعنيهم، أنت في نعمة وهذا المقال لا يعنيك إلّا من باب العلم والاطلاع إن شئت.

تمر بنا أحداث رغمًا عنَّا نجد أنفسنا طرفا فيها ونلوم أنفسنا لأن غيرنا يُعاني ونحن في دعة، تضطرب المشاعر لدينا بين لوم النفس على التقصير في حق الله على شكره وحمده على ما أنعم به علينا وتفضل، وبين تأنيب الضمير أننا نُراقب من بعيد واكتفينا بالبكاء والدعاء ولربما باستطاعتنا بذل المزيد من العطاء والجهد لنخفف عنهم ما يعانون، ذلك الاضطراب الذي يدخلنا في عتمة حزن غير مُبرر بالنسبة لبعض المحيطين بنا.

لن نذهب بالزمن بعيدا عنَّا الآن، ما مر به العالم من مآسٍ منذ بدايات العام 2020م إلى اليوم في كافة نواحي الحياة السياسية والمناخية والاقتصادية والصحية، وجه أدمغتنا للاهتمام بالأخبار المأساوية والمروعة وهو سلوك لا إرادي يعرف "بالتحيز السلبي" ويجبرنا العالم الرقمي ومواقع التواصل الإلكترونية والأنظمة الأساسية للشبكات الاجتماعية التي تقدم المحتوى باستخدام الخوارزميات على تصفح محتوى مكرر ومشابه لما قد تفاعلت معه من قبل.

انتشر خلال العامين المنصرمين ما يعرف بـ"التصفح المميت" وهو الجلوس على الجهاز (هاتف ذكي- كمبيوتر... إلخ) مُطولًا، واستهلاك الأخبار المأساوية لساعات طويلة من وقتك، و"للتصفح المميت أثره على الأفراد بعد جائحة كوفيد-19 والكوارث الطبيعية والصراعات في الشرق الأوسط وأوروبا والحرب الروسية الأوكرانية، بسبب مشاهد الموت والألم، والتداعيات التي ضيقت على العالم من الناحية الاقتصادية ودكت أغلب الشعوب في معيشتها وقوت يومها.

ما جعلني أبحث عن سبب ذلك الحزن الذي يأبى إلا أن يجثم على صدري لمدة قد تطول وقد تقصر بعد أحداث مريرة كنت فيها خلف الشاشات ولا تمسني من قريب، هو ما مررت به أثناء متابعة خبر زلزال تركيا وسوريا، مرحلة حزن عميق تساوى فيه كل شعور، لدرجة أفقدني لذة الاستمتاع بالعديد من مباهج الحياة إلى وقت قريب من اليوم، ولدي يقين بأن هناك الكثير مثلي، بسبب "التصفح المميت" لا زالوا عالقين بالبئر في قرية شفشاون بالمغرب منذ تداول خبر سقوط الطفل الريان فيه، كنا مع أفراد الوقاية المدنية وخبراء الإنقاذ والتربة والطبوغرافيا بمشاعرنا التي انهكت وخارت مع أولئك الباكين حول البئر لحظة إعلان وفاة ريان، ليترك فينا خبر رحيله جرحا لا يندمل ينكأ مع كل حدث مشابه كأنقاض الزلازل ودمار الحروب، وليس لأن إنسانيتنا كانت في سبات إلى ذلك اليوم، ولكنه ما سلط عليه الإعلام الضوء، وعايشنا أحداث ألمه المشهد تلو الآخر.

في العالم الرقمي كل شيء مباح المتاجرة به، والتجارة تسويق لا تخلو عند البعض من التضليل، والسوق يقف على العرض والطلب، والمقاطعة حل كل تسويف، ولكن "هيهات" الشعور بالذنب والإحساس "بعقدة الناجين" هما الدافع لتتبع تلك الأخبار وتتصدر المقاطع المرئية التي يشتم منها رائحة الموت ويشاهد فيها التلوي من الألم الجسدي والروحي للمصابين والناجين على حد سواء، قائمة المشاهدات الأكثر متابعة.

وقد لا ندرك أثر متابعة تلك الأخبار على الصحة النفسية، حتى نجد أنفسنا دون مبالغة وصلنا لمرحلة "ما بعد الصدمة" وهي الأعراض التي يعاني منها فرق الإنقاذ والناجون من الأمراض والحروب والكوارث الطبيعية بعد مدة من الوقت مما مروا به من معاناة جسدية كانت أو نفسية أو كليهما.

يُشدد المختصون بالنصح لضحايا "التصفح المميت" على اعتزال المواقع والقنوات الإخبارية التي تقدم مثل تلك الأخبار، وإشغال النفس بهوايات أو مهارات أو لقاءات اجتماعية إن أمكن، والمبادرة بالإجراءات الإيجابية كالمشاركة في الجهود الإغاثية أو حملات التبرعات.

الواقع أن ما يخفف كثيرًا على كل عُماني متتبع لأخبار ومآسي العالم، الدور الإنساني الذي تقوم به سلطنة عُمان من تقديم المعونات المادية والجهود الإغاثية، للنازحين في الملاجئ وللدول التي تعاني من ويلات الحروب والعوز أو التي تحل بها كوارث طبيعية- عافانا الله- وعفا ورفع الكرب عن كل مكروب.

تعليق عبر الفيس بوك