علي بن مسعود المعشني
منذ ثورة 23 يوليو 1952، والغرب الاستعماري يُوجه جُهد حربه ومعاركه في الوطن العربي الى ثابتين للأمة ولدولة الاستقلال العربي وهما: الأول: ثابت تاريخي يتمثل في القومية العربية ومشتقاتها من حضارة ولغة وتاريخ ووشائج، والثاني: الجيوش العربية كثابتٍ وركن من أركان حماية وتحصين دولة الاستقلال العربي.
لهذا لم يهدأ الغرب ولم يهنأ بالراحة منذ ثورة يوليو، وما تبعها من تأسيس لمؤسسات حرجة في دولة الاستقلال وعلى رأسها الجيش. هذه المؤسسة التي خرجت من رحم القومية العربية وتشربت بثوابت الأمة، فكانت عقيدتها القتالية والسياسية والعسكرية هي حماية القومية العربية ومشتقاتها وحماية الدولة من خلالها.
لم يكن تأسيس بريطانيا لـ"حلف بغداد" عام 1955 عبثًا، ولم يكن لهذا الحلف، المكون من: بريطانيا وتركيا والعراق وإيران وباكستان، من هدف حقيقي سوى مواجهة المدّ القومي العربي الناصري التحرري في الوطن العربي. ولم تتوقف بريطانيا عند تشكيل هذا الحلف؛ بل عملت على التخطيط والمشاركة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، بالتعاون مع فرنسا والكيان الصهيوني؛ حيث حلمت تلك الكيانات الثلاثة المعتدية بتحقيق الثأر لبريطانيا جراء قرار عبدالناصر بتأميم قناة السويس واتفاقية الجلاء عن مصر عام 1954م، واللذان أفقدا بريطانيا حظوتها والكثير من مقدراتها المالية، والأكثر من ذلك النيل من هيبتها ومكانتها العالمية، وهو ما أفصح عنه بمرارة كبيرة اللورد هارولد ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مذكراته، كما كان العدوان الثلاثي يهدف إلى تحقيق فرنسا لضربة عسكرية "تأديبية" لمصر الناصرية، جراء دعمها السخي للثورة الجزائرية، ذلك الدعم الذي أرهق الآلة العسكرية الفرنسية في الجزائر، وأخلّ كثيرًا بميزان التفوق العسكري المُطلق في جبهات القتال وعزز كثيرًا من قدرات الثوار، كما كان الكيان الصهيوني يهدف من خلال العدوان إلى كسر قوة الجيش المصري، وإحداث واقع سياسي يُجبر الزعيم جمال عبدالناصر على السلام والتطبيع مع كيان العدو. وفي المجمل كان هدف أطراف العدوان، تحقيق الأهداف جميعها كون النتيجة المرجوة لهم هي إضعاف مصر عسكريًا وسياسيًا كحاضنٍ مركزي للأمة العربية، إلى جانب إضعاف الأقطار العربية الناشئة والفتية من خلال ذلك الهدف المنشود.
لم تكن لغة السلاح هي اللغة الوحيدة الحاضرة في حروب الغرب ومخططاته على دولة الاستقلال العربي وعروبتها ومؤسستها العسكرية؛ بل رافقتها أدوات ناعمة أخرى قوية ومؤثرة، تمثلت في إحداث قطيعة وفجوة عميقة بين الحكومات والشعوب، حتى أصبح التنابز والتجاسر على الحكام والحكومات من الخطابات المُستحبّة والدائمة لمن يحسبون أنفسهم معارضين. وفي المقابل لجأت بعض الحكومات العربية كردة فعل منها إلى أساليب غلظة الدولة بدلًا من هيبتها، فعمّقت القطيعة وبسطت ثقافتها بصورة أكبر، ولا ننسى توظيف حركات الإسلام السياسي للنيل من الحكام والمؤسسات العسكرية ووصفهم بـ"الطغاة" وغيرها من النعوت المُهينة والتي استقرت بقوة لاحقًا في وجدان النُخب والعامة، وشكلت وعيهم وخطابهم السياسي والإعلامي؛ بل والأدبي كذلك في الوطن العربي، وسعي الغرب كذلك إلى تسويق ثقافات "الحزبية والمجتمع المدني" وفق ثقافته لبسط ثقافة التجاسر على الثوابت والموروث الحميد، ولتحقيق المزيد من الانقسام العمودي في المجتمعات العربية.
ولم تتوقف الحرب الناعمة عن كل تلك الأسلحة والساحات؛ بل امتدت لتطال اللغة العربية لتصفها بالعجز أمام العلوم العصرية، واعتبارها لغة غزل وشعر فقط، والنيل من العرق العربي بتشجيع المرضى والمهوسيين من المكونات السكانية الصغيرة في الوطن العربية للتطاول على العرب والعروبة ووصفهم بالمحتلين والغزاة ودعاة التخلف.... إلخ.
تجلّت العديد من هذه الأدوات والأسلحة وطفت على السطح في تفاصيل ما سُمي زورًا وبُهتانًا بـ"الربيع العربي"؛ حيث كشفت حركات الإسلام السياسي عن بشاعة وظيفتها لتفتيت الأمة وتحقيق مآرب الغرب وأهدافه عبر صفقة تمكين تلك الحركات من الحكم، وبالنتيجة حل الجيوش العربية وإعادة إنتاج جيوش ومؤسسات عسكرية وأمنية بعقائد جديدة، منزوعة تمامًا عن ثوابت الأمة، ومطواعة تمامًا بيد الخصوم والأعداء لتمرير مخططاتهم بسلاسة ويسر.
بعد تخطي مصر، وصمود دمشق الأسطوري أمام المخطط الغربي "الصهيو-إخواني" بفضل العقائد الوطنية لجيشي البلدين وتعافي الجيش العراقي الباسل تدريجيًا من أعراض الاحتلال الأمريكي البريطاني، لا بُد أن نترقب ونتوقع المزيد من الحروب الخشنة والناعمة على تلك المؤسسات الوطنية وبصورة أكبر وبنبرات أشد وبأدوات مختلفة وأساليب غير مألوفة، طالما بقيت الأدوات الحاضنة لذلك المخطط والغُثاء حاضرة بيننا ووفية لقناعاتها الفكرية ومشغليها قبل الله والوطن.
فسِرُ سعار الغرب وأدواته للقضاء على المؤسسات العسكرية في الوطن العربي، أن تلك المؤسسات تتصف بالوطنية والاحترافية العالية، فهي مؤسسات اكتسبت العلوم والمعارف العسكرية والأمنية المعاصرة، ثم جرى توطين تلك العلوم والمعارف وصهرها في قوالب الثوابت والعقائد الحميدة، بينما أغلب المؤسسات الأخرى في دولة الاستقلال العربي أنشأت على قواعد التقليد والمحاكاة أو وفق مقتضيات الحاجة، ولم يجر توطين غالبيتها أو تطويرها، وبالنتيجة فقدت الكثير من مهامها ووظائفها المرجوة فلم تشكل خطرًا على الخارج أو أثرًا يُذكر بالداخل.
قبل اللقاء.. الغريب في مواقف النُظم الرسمية العربية من حالة السودان اليوم، أنهم لم يصدروا بيانًا واحدًا يدعم موقف الشرعية المُتمثلة في الجيش الوطني السوداني، رغم إنكارهم ومعرفتهم صمتًا بدور وأهداف الميليشيات، بغض النظر عن مساعي ومبادرات السلام لاحقًا!!
وبالشكر تدوم النعم.