من وحي اللحظة

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

الحسُ في أغلب الأحيان خادع، وهو ليس موضع ثقة يقينية لعدم استناده على قاعدة معرفية علمية صلبة وانفعالاته اللحظية تقع بين شكيْن؛ أولهما: وهمي لا يستند إلّا على إحساس مُجرد ويخلص إلى نتائج تقع في مشيئة الاحتمالات. وثانيهما: شك منهجي يعمَدُ إلى إعادة اختبار الحدث حتى تتحقق كيفية علمه، ويعتمد على تجارب مُشابهة لتأتي النتائج كذلك ضمن قائمة الاحتمالات ولكن مع إمكانيات ترجيح أكثر قبولًا.

يُستثار تلقائيًا لغطٌ عميقٌ عندما يُمنع النَّاس بشكل مُفاجئ من شيءٍ كان طبيعيًا في نظرهم مثل الزواج من الخارج، وما يلبث الأمر أن يُصبح معتادًا بعد فترة قصيرة ثم يتحول طبيعيًا بعد فترة طويلة؛ فيمسي المنع أصلًا والسماح فرعًا، إلا في حالاتٍ خاصة تُستثنى لظروفها، وهكذا يَضمحل اللغط تدريجيًا ويقل الحديث حوله إلى أن يوازي منسوبه تلك الحالات الخاصة والتي قد تصل في مرحلة من المراحل إلى نسبةٍ تكاد لا تُذكر على المستوى العام، وتستمر النسبة في تدنيها حتى تصل إلى الاستشارة بأهل الاختصاص؛ إذ إن العامة لم تعد على علم بالقوانين الخاصة وتحديثاتها واستثناءاتها؛ لأنَّ الأمر لم يعد يعنيهم مع توقهم الشديد للغوص في بحر هذا الحديث اللُجي، فهو من المواضيع التي يطربُ لها كثيرٌ من الرجال ويُلغى عامل السن لا سلكيًا وتطوى بكل براءة سجلات العمر طي النسيان مع مكر وعبقرية الكتمان، عندما تدغدغ مشاعرهم فكرة الزواج من الغيد الحسان.

وفي هذه المرحلة يدخل المجتمع مع البرزخ بين الجيلين من متوسطي العمر بديهيًا في طور المُقارنات بين المثالية ذات الصلة بالشرائع والمعتقدات التي لا تعترف بالحقيقة الكاملة لمظاهر الأشياء من الخارج، والأفكار التي نولِّدها لاكتساب واقعيتها باختلاف تخيلها من شخص لآخر بحسب السقف المعرفي، وبين الواقعية المادية المتصلة بالعادات والتقاليد والتي تُسلّم بعينية الشيء من خلال وجوده الفعلي سواء كان مدركًا أو غير مدرك وهي عكس المثالية.

لقد وضع الإنسان يده على كل شيء تقريبًا بفضل ما يملكه من قوة وما يحظى به من تمكين في الأرض، وبات من الضروري في برهنة التابعية أن يكون كل شيء تابع لغيره وهو أمر حسنٌ إلى حدٍ ما كدليلٍ للاسترشاد بوجود مرجع، وهذا الأمر رُكز في الذهن بحيث أصبح واقعًا ليس من السهل إنكاره ويعتبر التفكير بتغييره نوعًا من أنواع التمرد ستتصدى له كل القوى المسيطرة، وكذلك اختزلت المرأة قديمًا في ثقافات مُعظم الحضارات والشعوب واعتبارها مجرد أداةٍ تابعة لا كلمة لها ويتحدث الرجال عنها بنوع من الاستصغار ويتعاملون معها بشيءٍ من الاستكبار وهي نظرة شائهة ووصمة سيئة في الفكر الإنساني السليم، وهذا ما رفضه الإسلام منذ بداياته الأولى رفضًا قاطعًا وسنَّ القوانين الصارمة لحفظ إنسانيتها وكرامتها وحقوقها، وهكذا فعلت كل المجتمعات باختلاف شرائعها لاحقًا مع تقدمها الحضاري، ولكن ما زلنا لم نستطع الفصل بين قوامة الرجل وشراكته للحياة الزوجية مع المرأة وفي ذلك اختلافات وتباينات في المفاهيم.

ولوحظ مؤخرًا مع تحديث قوانين الزواج من الخارج وتبسيطه أن مُعظم من يتحدث عن هذا الأمر هم الرجال باعتبار أنهم المتحكمون من باب القوامة المُساء فهمها، وكأنما جاء هذا التسهيل انتصارًا لرجولتهم وتمكينًا لتابعيتهم، مع العلم أنَّ معظم من يتحدثون في هذا الشأن يفضلون الزواج من الداخل وبنت بلدهم القريبة منهم هي الخيار الأول تحت مظلة التقارب الثقافي المضمون، والخوف من المجهول في مُغامرة تستحضر كل أنواع الشكوك ونتائجها المحتملة دون حتمية أو يقين، باستثناء بعض المقارنات التي قد ترجح نتيجة إيجابية في أقوى الاحتمالات، ونصرف النظر هنا عن الحديث حول جدليات المهور فهو واقع بين إيجاب وقبول وتفاهمات لا إكراه فيها ولا إجبار "واظفر بذات الدين ترتبت يداك".

كلٌ يقيس الفكرة من حيث هو ومعرفته البسيطة من خلال قصةٍ عاصرها أو سمع بها من قريبٍ أو صديق، وكلٌ يرى أنه الأحسن من غيره والأكثر أهلية وقابلية ويسقط ذلك على مجتمعه بشكلٍ عام باعتبار أن مجتمعه هو الأفضل والأكثر صلاحًا وقد يكون ذلك نوعًا من الإغراق في المثالية التي تحول الأشياء إلى معانٍ في الذهن ثم تخرج تلك المعاني إلى الواقع بحسب فهمه ورغبته بحيث يشمل بذلك المفاهيم الكلية في عالم القيَم ويغض الطرف عن السلبيات، وهذا نوع من الإسراف في المُثل العليا والتي يستحيل وجودها مجتمعةً في مجتمعٍ ما.

كان متوقعًا أن لا يستمر منع الزواج من الخارج إلى الأبد، لأسبابٍ كثيرة وأهمها الرغبات الشخصية وحرية الاختيار ومنع الاحتكار- المادي وليس الإنساني- فضلًا عن الحفاظ على العلاقات الأسرية والوشائج العائلية والحب المتبادل بين طرفين ولعل هذا الأخير هو الأهم ولكن لا يحسب له رجال المناطقة المُكثرين في الحديث دون فعل حسابًا؛ إذ
إن المشاعر تُعد في عالم قوامتهم المموه من صروف الضعف والوهن، وربما العيب في كثير من الأحيان. ويتحدث البعض فيما يشبه ذوبان الجيل القادم في ثقافاتٍ مختلفة ويعظمون الأمر وكأنما جيلًا كاملاً من الشباب سيهب هبة رجل واحد لإعلان النفير العام للزواج من الخارج!! ولا أدري ما هو الخطر الداهم المُحدق بنا والذي يخشونه من الزواج بنساءٍ مُسلماتٍ هُن أشد حرصًا على تربية أبنائهن تربية صالحة، ويلقون باللوم على النساء في التغيير الثقافي القادم، ولا أعلم لماذا في هذه اللحظة الانفعالية يختفي دور الأب ذي القوامة فجأة وكأنه غير موجود ولا علاقة له بالتربية وغرس المفاهيم المثالية والواقعية في أبنائه.

إن التوتر في الحياة الزوجية أمر قائمٌ لا مناص منه ولا نستطيع هندسته رياضيًا أو تقنينه ميكانيكيًا، ولكن بالإمكان التعامل معه بحسب مقتضى الحالة بحد بذاتها وبصورة مستقلة وحلحلتها لتفريغها من محتواها، ولابد من تقديم بعض التنازلات إن تطلب الأمر من أحد الطرفين فالميثاق الغليظ بينهما قد تجاوز الكرامة وعزة النفس بمراحل ولا يختلف الأمر في هذا الشأن بين الزوجة القريبة أو الغريبة أو الأجنبية؛ إذ إن القوامة الفعلية هنا ستعطي الرجل أهليته للعب دوره فعليًا وليس بالأقوال الإنشائية.

كثيرٌ من النَّاس في مجتمعنا لديهم أقارب وأصدقاء من أمهاتٍ فاضلاتٍ من دول عربية وإسلامية وجنسياتٍ مُختلفة وأنا منهم، ولم نجدهم فاقدين للهوية أو متعددي الثقافات بميول فكرية سلبية أو متطرفة؛ بل إنَّ عُمانيتهم ضاربة بأطنابها إلى النخاع، ذلك لأنَّ الآباء القوَّامون قاموا بدورهم على أكمل وجه وما زالوا يفعلون.