رسالة مُبعثرة

 

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

للراحلين الحاضرين بيننا، رسائل الحبّ نرسلها دون أن يصلنا منهم وارد؛ فالحروف وحدها تعبّد الدرب الشّاق بيننا وإن أخفق المعجم في إيصال ما نود إيصاله.  

إلى غائبي..

إلى الاسم الأول من الأسماء الخمسة..

أرسلُ لك رسالة مُبعثرة قد تشبهني..

كتبت قبلها بعض الرسائل امتزجت جميعها بي؛ شعر بها الحبر وأنت لم تشعر!

تبا لما أبعدك عنّي وغيّرك عليّ؟

تبا للغياب..

… أيُعقل أن تكون نسيتني!

طال هجرك حتى في الأحلام لم تعد تأتي، الحلم الأخير الذي جمعني بك في حضنك كان منذ عشرة أعوام كاملة، تفاصيله تجتاحني وكأنه منذ دقائق.

هل الموت يغير الآباء على بناتهم؟

هل هو أشدّ أنواع الهجر قسوة؟ تعلم أنني لا أحتمل غيابك، وتعلم أنني أحبّ إخبارك بتفاصيلي التي يسخر إخوتي منّي كلما أخبرتك عنها ويجمعون جميعهم على جنوني؛ ربما جنوني هو ما يقربني منك. 

أبي.. لقد عاد مجددًا اليوم الذي أخذك مني، أوقد الحطب كعادته فيني، تنمّر عليّ حتى جعلني أبكي، وسكب النكد على ما تبقى من أيامي، ولونها بالفحم ونثر أمامي رمادي ثم نفخه في وجهي وغادر شامتا منتصرًا.  

أجدك في كلّ شئ أمامي، حتى في اللغة؛ فالاسم الأول من الأسماء الخمسة ينكأ جراحي، كنتُ أناديك به وأجلس بجانبك وأخبرك تفاصيل أخفيها عن غيرك، وأسمع منك أحاديث الماضي التي أضاعت ذاكرتي المخفقة الكثير منها، تمنيت أن يجمعني بك حلم قصير يسمعني بعضا منها. 

كلَّ عام والغياب يزداد قسوة من سابقه، ليتك تأتي!

ما الذي يجعلك لا تأتي!

ما الذي يشغلك عنّي، هل وجدت ملاذًا خير من ملاذي، هل وجدت بناتك اللاتي سبقك الغياب إليهن وشغلنك وأنسينك من أكون!

ما زلت لا أستوعب هذه القسوة؛ بالرغم من أنها استوعبتني وأجزلت!

لا أدري لِم يُحكم على الآباء بالغياب؛ لكنّي أدركت حال غيابهم، صِرت أعلم أن رسائل الغياب وحدها تصل بينما تتوه في البريد رسائل الحبّ؛ لكن خصلة الجنون فيني ما يجعلني أرسل دون رد!

رسالتي اليوم لك مبعثرة علّها تصلك؛ ربما البعثرة أبلغ من العبارات المنمقة الرنانة.

تخبرني أمّي دائمًا عن بعض الكلمات التي كنتُ أتجرأ قولها أمامك وأنا صغيرة بالرغم من هيبتك ونظرتك التي أهابها وتقلقني، وكانت الكلمات إمّا أن تضحكك أو تستفز غضبك وتجعلك ترفع عصاتك كي تضربني، لكن العصا كانت تسقط دون أن تصلني، تمنيت لو أقولها الآن أمامك وتضربني.

ليست تلك الكلمات فحسب؛ بل لدي الكثير ممّا أريد قوله لك، فالقدر لم يمهلك لتسمع كلّ كلماتي، فقد كبر معجمي وامتلأ بالكثير من الكلمات التي لم تسمعها مني، لم تكن كتلك الكلمات البريئة الصادرة بالعفوية المصاحبة بالضحك والمزح، اختلف الأمر يا أبي؛ فالحياة غيَّرت معجمي وملأته بمفردات باردة جافة وقاسية حالت بيني وبين أنوثتي.

أبي..

لا أذهب مكانًا فيه أناس يعرفونك إلّا ويطرونك أمامي، ويخبروني عنك مواقف لم تكن تخبرنا عنها؛ لكنها كانت تجعلني أرفع رأسي وأفخر بانتسابي لاسمك وتؤجج لهيب الشوق فيني، وأتمنى لو أنّ الغياب أمهلك قليلا حتى أتمكن من معرفتك جيدا كما يعرفك غيري، أشعر أن الناس يعرفونك أكثر منّي..

أشعر أنك منحتهم أكثر ممّا منحتني.. أو أننّي لم أشبع منك..

أشعر أن الغياب كان الأدهى والأبرع  في الاستحواذ عليك منّي ومن غيري…

والأمحق في جلب الأسى والتّنمر به عليّ.

لن أقول وداعا؛ فسأكتب لك ما حييت.