انهيار القيم عامل لسقوط الأمم (3)

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

الانسان هو أكرم مخلوق على هذه الأرض، خلقه الله لعبادته، واستخلفه في أرضه، وقبل أن يحمل امانة الله في أرضه لا بد من تحقق كماله واعتداله في توازن شخصيته الخُلقية مع حسن التقويم في شخصيته الخلقّية، بحيث تؤهله لأمانة العبودية والخلافة وأداء الأمانة على أكمل وجه، لأن ليس كل من أطلق عليه انسان قادر على القيام بذلك.

والشخصية الإنسانية تختلف بمعناها ومفهومها المتعدد بحسب أنواعها وأنماطها، حيث إن الشخصية هي عدد من الصفات والسمات والطباع المختلفة للفرد، وتوجد معه بشكل دائم وهي أمور تميز كل شخص عن غيره، وتعكس طبيعة تفاعله مع ما يحيط به من أفراد ومواقف بحسب كان هذا مرتبط بفهم وإدراك الشخص وأيضًا سلوك ومشاعر وتصرفات موجودة فيه، كما أنها تعكس قيّمه ورغباته وميوله وتصوراته ومواهبه وإلى ما غير ذلك.

ومعنى الشخصية لا يتمثل في الشكل الخارجي فقط أو سلوكياته أو سماته، ولكن المعنى العام للشخصية يعتبر نظام كامل متكامل من كل ما سبق حتى يتكون في نهاية الأمر كيان شخص محدد المعالم، بمفهوم مكتمل للشخصية، ونجد القرآن الكريم يتحدث عن الشخص البشري وإليه، مستخدما مفردات كثيرة من قبيل: الإنسان، الناس، البشر، المرء، بنو آدم، النفس.

ولكل واحد من هذه المفردات، التي يشير بها القرآن إلى الكائن البشري، حدودًا دلالية لا يمكن هنا استقصاؤها ورسمها، إلا أننا نذكر لفظ- المرء-  يختزن إمكانات دلالية فريدة، يكفي أن نشير، إلى أنه لا يأتي، في اللغة العربية، إلا مفردًا، ولا جمع له إلا من غير لفظه؛ وهو كذلك اللفظ المستخدم في الحديث النبوي الشريف لمسند الربيع بن حبيب بن عمر الفراهيدي الازدي، باب في النية، "قال أبو عمرو الربيع بن حبيب بن عمرو البصري حدثني أبو عبيدة مسلم بن ابي كريمة التميمي عن جابر بن زيد الازدي عن عبدالله بن عباس عن النبي قال: نية المؤمن خير من عمله" وبهذا السند في رواية أخرى عنه عليه الصلاة والسلام قال: "انما الاعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى".

ثم أن لفظ المرء بينه وبين لفظ المروءة نسبًا، ومعلوم ما يطفح به لفظ المروءة من حمولة أخلاقية إيجابية، حتى لا يكاد ينحصر ما تحتها من الفضائل، فضلًا عن كونه أحد الألفاظ التي جمّعت فيه اللغة العربية أجزاءً من التجربة الإنسانية تجميعًا فريدًا إلى درجة تعسُر معها ترجمته إلى أي لغة أخرى.

وعلى هذا الأساس، لن ننظر إلى إنسان ومرء كما لو كانا مترادفين ينوب أحدهما عن الآخر، صحيح أنهما يشيران إلى نفس الموجود الخارجي، لكن ليس بالاعتبار الواحد نفسه ولا من الجهة الواحدة نفسها، ويمكن تفسير مظاهر السلوك المختلفة للشخصية من خلال دراسة الحالات العديدة، وبناءً عليها يتمّ البناء النظري للعلم، الذي ينظّم تصوراتنا للشخصية.

ولأن الجوهر والإنسان والشخص؛ كائن مفكر قادر على الوعي، وحيث إن الوعي هو تلك المعرفة المصاحبة لكل تفكير أو إدراك حسي أو حالة شعورية، يتميز به الانسان عن غيره من الكيانات المفكرة، لا تكمن الهوية الشخصية في شيء سواه وبقدر ما يمتد هذا الوعي في الماضي بقدر ما تمتد هوية هذا الشخص، بل تنطوي على أحكام تقييمية وعلى نظرية أخلاقية ضمنية، ينطبق ذلك على أسماء الكائن البشري الفرد قدر انطباقه أسماء الجماعات التي يدخل فيها الفرد مثل الناس، البشر، القبيل، الشعوب، الأمة، العباد، الأمم، الملأ، القوم، ومرء وإنسان يشيران في النهاية إلى كيان يرِد غالبا في محل المسند إليه، إنْ فاعلًا ﴿إن الإنسان ليطغى﴾، ﴿يوم يفر المرء﴾ أو مفعولًا به ﴿خلقنا الإنسان﴾ أو منادى ﴿يا أيها الإنسان﴾ أو موصوفًا ﴿وكان الإنسان كفورًا﴾.

إن دعائم الدلالة الأخلاقية للشخص- الذات- التي يمكن أن تُنسب إليها مسؤولية أفعالها، وليست الشخصية الأخلاقية شيء آخر غير الحرية التي للكائن العاقل تحت سقف القوانين الأخلاقية، ولما كانت هذه الذات الأخلاقية هي التي تشرّع لنفسها بنفسها قانونها الأخلاقي، ولا تتلقّاه مفروضًا عليها من إرادة خارجة عنها، فإن هذا الاستعداد، يرفع الشخص فوق مقام كل الموجودات الطبيعية التي لا تتصرف بموجب قوانين من وضعها، بل تخضع لقوانين خارجية حتمية، هذا ما يَهَب الشخص قيمة مطلقة أو كرامة، ولهذا نطالع بأن الشخص كائن عاقل تجعل منه طبيعته غاية في حد ذاته ومحل احترام؛ أي شيئا مقيِّدًا للخيارات، ما دام لا يمكن استعماله كما لو كان مجرد وسيلة.

وإذا كانت الهوية والمسؤولية والكرامة قوام الشخص بما هو ذات أخلاقية في الفلسفة الحديثة، فإن هذه المكونات، ليست غائبة عن القرآن الكريم على الرغم من القرون الفاصلة بين عصره وعصر الحداثة، يلح القرآن بدوره على المسؤولية الفردية بحيث لا تزر وازرة وزر أخرى، كما يعلن أن بني آدم يحْظون بتكريم إلهي أصلي، وربما لم يُلتفتّ إلا قليلًا إلى تصور القرآن لـ"الشخص" من حيث هو وحدة معنوية تقوم بدور تمثيل الإنسان الفردِ أخلاقيًا أمام الله، من باب أوْلى، لم يتم الاهتمام بهويته المفهومية؛ أي بالحد الذي قد يشير به القرآن إلى هذا الكيان.

وهناك اعتقاد بأن اللفظ الجنيس- إنسان- كافٍ للدلالة على الفرد المشرَّف المكلَّف؛ والحال أن لفظ إنسان أقرب إلى الدلالة، في القرآن، على النوع أو ماهية النوع مع شيء من الإيحاءات الميتافيزيقية السلبية أكثر من دلالته على الفرد أو الشخص، لكن قد يحدث أن يصطدم المفكر، عرَضًا، بمشكلة هوية الفاعل الأخلاقي وتسميته، فيضطر إلى القول فيها، مثلا أن لفظ النفس، تأتي في موضعها من الآيات الكثيرة مرادفة للقوة التي تحس النعمة والعذاب وتلهم الفجور والتقوى، وتحاسب على ما تعمل من حسنة أو سيئة، إنها أوصاف يجعل بها المفكر العربي "مصطفى محمود العقاد" النفس مستغرقة لـ"الذات الإنسانية" ومطابقة لها بما هي ذات أخلاقية، أي حين تفعل وحين تختار وحين تحاسَب، لكنه سرعان ما يتجاهل هذا التطابق فيقرر أن "الإنسان" أعم من النفس؛ لأنه مسؤول أن ينهاها، فجملة هذه القوى من النفس والعقل والروح هي "الذات الإنسانية"، تدل كل قوة منها على "الذات الإنسانية" في حالة من حالاتها، ولا تتعدد "الذات الإنسانية" بأية صورة من صور التعدد.

أما المفكر عبد الكريم الخطيب، فيحسم الأمر بأن يجعل النفس في القرآن بمثابة "الكائن الذي يمثل الإنسان أمام الله، بل وأمام المجتمع أيضا"، ثم يمضي في تعريف النفس تعريفًا يذكرنا بتعريف جون لوك للشخص: "النفس في القرآن هي الإنسان المسؤول المحاسب، الذات الإنسانية أو الإنسان المعنوي، إنها تتخلق من التقاء الروح بالجسد، إنها التركيبة التي تخلق في الإنسان ذاتية يعرف بها أنه ذلك الإنسان بأحاسيسه ووجدانه ومدركاته، لكن الخطيب هنا يغض الطرف عن المعاني الأخرى الكثيرة التي يستعمل بها القرآن لفظ النفس، بما يشوش على دلالتها على الذات الإنسانية، ويبدو أن "النفس" هي القِبلة المفضلة للدارسين عندما يتعلق الأمر بتعيين مفهوم الشخص الإنساني في القرآن، هكذا ينطلق "ريجيس بلاشير" بدوره من مبدأ المسؤولية الفردية في الإسلام، ومن أن القرآن يجسّم هذا المبدأ في مشهد وقوف الكائن البشري بين يديْ ربه يوم الحساب، وهو يلاحظ أن القرآن إذ يستعمل أحيانًا مصطلحًا مجردًا، هو "الإنسان"، لتسمية هذا الكائن الواقف بين يديْ ربه، فإنه في مواضع أخرى كثيرة يستعمل لفظ النفس، ويمضي "بلاشير" إلى أبعد من ذلك فيعمد إلى لفظ النفس في آية ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (آل عمران:145)، بل يزيد في آيتيْ ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾ (المنافقون: 11) و ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ (الإسراء: 33)، والحال أن النفس، في هذه المواضع الثلاثة، لا تغطي مفهوم الشخص في أبعاده المركبة، بقدر ما تُصور الإنسان من زاوية مخصوصة، بما هو محل لـ"جذوة حياة"؛ أي الروح التي تزهق عند الموت.

أما بخصوص مفهوم الشخص نفسه، فقد اكتفى محمد أركون بملاحظات وجيهة، وإن ظلت عابرة، من قبيل أن الشخص محل للحرية، حيث تتشكل توليفات معينة، وتُتبنّى خيارات محددة وتُستبعد أخرى، عند "إيزوتسو"، الانسان ليس زيدًا أو عمرو، بل الإنسان بعامة في مقابل الله، وهو، في عموميته هذه، يكون مخلوقًا وعبدًا، كفورًا أو شكورًا، أكثر من أن يكون فردًا وذاتية، ولذلك انصرفت عناية "إيزوتسو" إلى مفاهيم العبودية والكفر والشكر، المنسحبة على الإنسان بما هو نوع، ويُحسب له تفطُّنُه إلى أن المفردات الدالة على الجاهلية تعكس صورة ما للشخص عن نفسه وعن قيمته الذاتية؛ فمفردات مثل أنفة وإباء وحمية وحفيظة، تدل جميعها على مكارم صفات الرجل السيد الذي يرفض كل ما من شأنه أن يشين كرامته الشخصية، ووقف أيضًا على تعارض هذه الصورة عن الذات مع مطلب العبودية الحازم الذي جاء به القرآن؛ ولكنه لم يلحظ أن العربي آنذاك قد جادل مطالبًا بـ "الحق في الوحي"، معتبرا اختصاص رجل بالوحي دون غيره أمرًا قادحًا في الكرامة الشخصية للآخرين.

إذن يمكننا القول إن شخصية الانسان لها جانبان، جانب مكون من الصفات البيولوجية، وجانب مكون من الصفات الاجتماعية التي يكسب المجتمع افراده في قوالبها، إلا أن العوامل الاجتماعية، لها الكلمة الأولى في تكوين تلك الشخصية، فقد يولد الانسان ولديه نزعة إلى التفوق والإبداع واحترام الغير فيتمسك بها ويُحافظ عليها، واجتماع قيم الأفراد هي التي تكون أساسًا لأخلاق المجتمع، أما تميزه عن غيره من المجتمعات يكون عن طريق نوعية القيم التي يغرسها في نفوس افراده، واشتراك مجموعة من الأفراد في المجتمع العُماني- مثال- بامتلاكهم لقيمة احترام الآخر، سيكون هذا سبب لاتصافه بالسلم والطمأنينة والوئام، فالفرد ما هو الا صنيعة مجتمعة.

والقول الصائب هو أنّ أخلاق المجتمع تعكسها قيم الأفراد، لأن الأخلاق كالشجرة لابد من تهذيب اوراقها التي أصابتها حشرة ضارة، وتقويمها بصبر وتأن لتصير شجرة سليمة يانعة مشرقة، واستنتاجنا مما تقدم هو أن القيم تكون بالدرجة الأولى ذاتية؛ أي ترتبط بكل فرد على حده، ومن ثم تتعدى لتؤثر في بقية الأفراد من حوله، وبعدها تنتقل ليكون لها الأثر الأكبر في تغيير أخلاق المجتمع، وهذه الأخيرة هي متعدية وليست ذاتية، أي أنها ترتبط بالآخرين، فأخلاق المجتمعات ترتبط بالأفراد وقيمهم التي يتمسكون بها ويحافظون عليها.

تعليق عبر الفيس بوك