د. إسماعيل بن صالح الأغبري
السياسة الثابتة والدبلوماسية ذات الطبيعة المتأنية في اتخاذ القرارات البعيدة عن الانفعالات، ميَّزت سلطنة عُمان في علاقاتها مع دول الإقليم والعالم، ومنها العلاقات مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومع إيران، فسفراؤها لم يغادروا أيًّا من تلك الدول، ودبلوماسيوها لم ينقطعوا عن زيارات تلك العواصم وترسيخ تلك العلاقات، ومع التباين في المواقف من بعض قضايا لبنان واليمن وفلسطين، إلّا أنها تتفهم ذلك التباين؛ لذا لم يصدر من وسائل إعلامها ما يعكر صفو العلاقات أو يُسمم همزات الوصل السياسي أو يُثير مشاعر الشعوب أو يوغر الصدور.
ولا يعني هذا عدم وجود العتب، إلّا أن السياسة العُمانية لا تميل إلى نقل الاختلاف في وجهات النظر السياسي بين الدول من أروقة وأحضان الدبلوماسية إلى أوساط الشعوب ذوي العواطف الجياشة والثقافات المتباينة والمستويات المختلفة في المجال السياسي؛ إذ انتقال الخلافات من أحضان السياسة إلى أحضان الشارع عبر التأجيج الإعلامي يؤذن بصعوبة إحكام السيطرة على تلك الخلافات ويصير العلاج فيما بعد مستعصيًا.
عُمان على مسافة واحدة من الجميع مع دول مجلس التعاون الخليجي، فيما يحدث في البيت الخليجي سمة مميزة للدبلوماسية العُمانية، فعندما توترت العلاقات بين الأشقاء السعوديين والبحرينيين من جهة، وبين القطريين من جهة أخرى، لم تكن سلطنة عُمان طرفًا في ذلك التوتر ولكنها أيضا لم تغير منهجها الدبلوماسي من حيث عدم قطع علاقاتها مع أي طرف، وما هي إلا برهة من الزمن حتى عادت العلاقات بين الشقيقتين السعودية وقطر ثم ها هي اليوم تعود المياه إلى مجاريها بين الشقيقتين قطر والبحرين أي أن الجميع عاد إلى ذات الرؤية التي عليها السياسة العُمانية.
أما ما يتعلق بالخلافات بين عدد من دول الخليج وإيران، فإن السياسة العُمانية ودبلوماسيتها لا تميل بناء على ميلان هذه الدول مع أو ضد.
ظلّت الدبلوماسية العُمانية نشطة مع إيران؛ سواءً أقاد إيران المحافظون أو الإصلاحيون، كما استمرت علاقاتها طبيعية مع سائر دول المجلس ومع ذلك تعرض كُتاب وصحفيون وإعلاميون خليجيون بألسنة حداد شداد للدبلوماسية العُمانية يريدون منها مسايرة في وصل العلاقات أو قطعها للدول الأخرى، وهذا ما لا يمكن، لأن فيه فقدانا لأسس ومنهج الدبلوماسية العُمانية في ثبات العلاقات ووصل الدول وعدم ذوبان منهجها السياسي في مناهج غيرها.
اتهم هؤلاء الكُتاب سلطنة عُمان بالتغريد خارج السرب الخليجي، وتارة يتهمونها بتقديم مصلحتها دون النظر في مصالح غيرها من دول الخليج، وتارة أخرى يتهمونها بالتماهي مع سياسة إيران، ومع ذلك فإن الإعلام العُماني تجنب الدخول في مهاترات أو حتى الالتفات لهؤلاء الصحفيين.
هذه السياسة العُمانية أثبتت الأيام أن الجميع فيما بعد يَصير إليها وإن لم يعلن أنه تبيَّن له صواب المنهج السياسي العُماني، كما أنَّ هذه السياسة مكنت سلطنة عُمان من القيام بدور التقريب بين الأطراف المختلفة دبلوماسيًّا، ولا أدلَّ على ذلك من توجيه الشكر الجزيل لسلطنة عُمان إثر ما قرَّرته السعودية وإيران من إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما بوساطة صينية، وفتح السفارات والقناصل في جدة والرياض ومشهد وطهران؛ بل تلقى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي دعوة رسمية لزيارة السعودية.
العُمانيون على الصعيد الرسمي والشعبي استبشروا بذلك؛ لأن ذلك مبتغى الدبلوماسية العُمانية أولًا، ولأن في عودة العلاقات بين الدولتين الكبيرتين إيران والسعودية مصلحة خليجية وإسلامية، وكذلك فإن عودة العلاقات يؤذن بمزيد قوة لدول منظمة التعاون الإسلامي كما يعني ذلك إسكات وسائل الإعلام والصحافة المغرضة من تسعير الفتن، والأهم من ذلك سيترتب على قيام العلاقات الدبلوماسية بين البلدين نزع التأجيج الفكري والثقافي في المنطقة، وتفويت الفرصة من المتشددين والمتعصبين فكريًا.
إنَّ عودة العلاقات بين البلدين سيعود بالإيجاب اقتصاديًّا عليهما وعلى دول الإقليم، بدلًا من حُمَّى التسابق والتراشق، إضافة إلى أنه قد يقلل من تدخلات القوى الكبرى في المنطقة التي تمتص ثروات البلدان عبر صفقات السلاح وما يسمى بالحماية والرعاية.
البعثات الدبلوماسية بين الإمارات وإيران أيضا عاد كل منها إلى موقعه، علمًا بأن التبادل التجاري على أشده وبالمليارات بين إيران والإمارات حتى في حالة قطع العلاقات بين السعودية وإيران.
وفود بحرينية وإيرانية تتبادل الزيارات تمهيدًا أيضا لعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، وهذا يعني خفة حدة التوتر وإمكانية حلحلة قضايا الخلاف في أروقة السياسة وليس في ساحات المواطنين أو وسائل الإعلام.
لا شك أنَّ العلاقات العربية الخليجية الإيرانية ستُنهي طموح المُغرضين ممن يشبه هذه الاختلافات وكأنها صراع قومي عربي فارسي، والحقيقة ليس من أحد يرفع شعار الفرس أو قومية العرب فنحن خارج خمسينيات وستينيات القرن العشرين المنصرم، والمنطقة لا تعيش عهد تلك الشخصيات القومية التي تصارعت فيما بينها، وغزت بلدانا عربية.
إيران والسعودية دولتان ذاتا مساحة جغرافية شاسعة، وتتميزان بأرضية وسوق اقتصادية استثمارية واعدة، وإيران دولة متقدمة في مجالات الهندسة والصناعات والطب فيمكن لدول المنطقة الاستفادة منها. ومضيق هرمز وبحر العرب وبحر عُمان يمكن أن يشهد تعاونًا وتنسيقًا بين دول الخليج وإيران بدلًا من التنازع.
العلاقات الدبلوماسية بين العرب والخليجيين وإيران يُمكن أن تشكِّل قوة في وجه الضغوط الإسرائلية كما سيفوِّت الفرصة على إسرائيل في محاولتها تأجيج الصراع بين دول المنطقة وإيران.
ويبقى سؤال مشروع وهو ما موقف الكُتاب والصحفيين والإعلاميين و"المفكرين"؟! الذين كانوا يشنون حملات إعلامية ضد عُمان بسبب علاقاتها الطبيعية مع إيران، ما موقفهم اليوم من عودة العلاقات بين دول الخليج وإيران؟ ولماذا اليوم بدأ عدد منهم يسوِّق للآثار الإيجابية لتحسن العلاقات الخليجية الإيرانية وكان من قبل يرى إيران الشر المستطير، وينتقد سلطنة عُمان؟ لماذا اليوم تغيرت لهجتهم وصارت العلاقات الإيرانية الخليجية مصلحة وضرورة؟ اليوم الجميع صار إلى ذات ما تراه الدبلوماسية العُمانية من حيث ضرورة عدم قطع العلاقات وتجنب المهاترات أليس الأولى بهؤلاء الكُتاب والإعلاميين و"المفكرين" الاعتذار لعُمان؟
ألم يدركوا أن العلاقات العُمانية مع إيران كانت من أسباب تخفيف الاحتقان بين دول الخليج وإيران، وكانت من أسباب عودة المياه إلى مجاريها اليوم، ولولا هذه العلاقات لشهد مضيق هرمز وبحر عُمان وبحر العرب عرقلة لنفط دول الخليج ولسفن دول الخليج من العبور.
ألم يُدرك هؤلاء أن احتفاظ سلطنة عُمان بهمزات الوصل يُسهم في التقريب بين أطراف يمنية وبين السعودية مما يعني احتمالية إنهاء الأزمة وقرب توصل الأطراف إلى حلول مرضية للجانبين؟