المصالح الوطنية أولًا

حاتم الطائي

◄ الحرب في أوكرانيا كشفت عن الاستغلال الأمريكي لأزمات أوروبا لتحقيق مصالحها

◄ فرنسا تقود صحوة أوروبية ضد الهيمنة الأمريكية وتسعى للتخلص من شرنقة التبعية

◄ فسيفساء النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب آخذة في التشكُّل

 

مُنذ أن اندلعتْ الحربُ في أوكرانيا، وموازين القوى العالمية بدأت في التغيُّر، وتنبأنَّا بميلاد نظام عالمي جديد، قد يمر بمخاض صعب، لكنَّ الولادة حتمية ولا مفر منها، ويومًا تلو الآخر تَصدُق التوقعات، وتتوالَى الأحداث التي تؤثر إيجابًا على مسار هذه الولادة؛ سواءً على المستوى السياسي، أو العسكري، أو الاقتصادي، لنقترب تدريجيًّا من نظام عالمي مُتعدِّد الأقطاب، يَدفن النظام العالمي -الذي يمر حاليًا بآخر محطات وجوده- بلا رَجعة، ونشهد فيه صعودَ قوى عالمية جديدة تعتمد نظام التحالفات القائمة على المصالح الوطنية، لا التحالفات القائمة على تحقيق مصلحة دولة واحدة فحسب.

لقد فجَّرت الحرب في أوكرانيا العديد من التحديات والأزمات، خاصة على المستوى الاقتصادي، لكنَّها في الوقت نفسه أحدثت خرقًا كبيرًا في جدار العلاقات التقليدية بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي دائمًا ما كانتْ أوروبا فيها تقوم بدور التابِع بجدارة؛ فالسياسات الاقتصادية الأوروبية لا تتعارض مع نظيرتها الأمريكية؛ بل تعمل على الدوام من أجل خدمة المصالح الأمريكية، والأنظمة المُتَّبعة تدور في فَلك النُّظُم الأمريكية، ولا تستطيع أن تحيد عنها، وكانت عبارة "إذا عطست أمريكا يُصاب العالم كله بالزكام" تطبيقًا عمليًّا لطبيعة علاقة التبعيَّة الأوروبية (وغير الأوروبية) للولايات المتحدة.

إلا أنَّ المتُغير الذي حدث مع اشتعال المعارك العسكرية في أوكرانيا وتصاعُد العقوبات الأمريكية غير المسبوقة والعنيفة ضد الاقتصاد الروسي (بل ضد كل ما هو روسي حتى القطط والحيوانات)، تسبَّب في أضرار بالغة على دول الاتحاد الأوروبي، الذي يُعاني في الأساس من أزمة هيكيلة في بنيته الاقتصادية والثقافية والسياسية، فضلًا عن التحديات الديموغرافية الحادة. الأضرار التي خلَّفتها الحرب في أوكرانيا بدأت من تهديد إمدادات الطاقة على نحو لم يسبق له مثيل، وإجبار الاتحاد الأوروبي على شراء الطاقة الأمريكية بأسعار مرتفعة للغاية، بعدما أدَّت العقوبات الأمريكية على مصادر الطاقة الروسية إلى قفزات في أسعار الطاقة عالميًّا؛ سواءً الغاز الطبيعي أو النفط. وحققت خلالها شركات النفط الأمريكية أرباحًا خيالية بالمليارات.

ومن المفارقات العجيبة التي تنمُّ عن حجم التبعية الأوروبية للولايات المتحدة أنَّ العقوبات الأمريكية على روسيا، تبعتها أو حتى تَوَازت معها في كثير من الأحيان عقوبات أوروبية مماثلة، وكأنَّ أوروبا تدور في الفَلك الأمريكي مُغمضة العينين، لا ترى حتى مَصالحها ولا تتوخَّى الحذر من تداعيات أي قرار تتخذه على مصالحها الحيوية، وأمن الطاقة تحديدًا.

بَيْد أنَّ التأثيرات الحادة على الدول الأوروبية أخذت منحًى خطيرًا مع اشتداد تداعيات الحرب على الأوضاع الداخلية لها، والتي تزامنت مع ركود اقتصادي عالمي وتراجع في معدلات النمو الاقتصادي وقفزات هائلة في التضخم وأسعار الفائدة، وتكدُّس أعداد العاطلين عن العمل، والأهم من ذلك كله عدم اتضاح أفق هذه الحرب، ولا بوادر انتهائها، في ظل السعي الأمريكي لاستنزاف الدب الروسي في المستنقع الأوكراني، وكأنَّ الولايات المتحدة سعت -عن قصد- لاستفزاز روسيا من خلال الخاصرة الأوكرانية الهشَّة، بل وأججت هذا الاستهداف الآن بانضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي "ناتو"، فيما يبدو أنه تهديد وجودي يراه الروس ماثلًا أمامهم وعليهم أن يتعاملوا مع هذا المُتغير الجيوإستراتيجي الجديد، حتى وإن كان هذا الانضمام متوقعًا منذ بداية التصعيد، وانطلاق حرب استنزاف روسيا.

لكنْ وفي ظل هذه التطورات الخطيرة، والتي تمثل تهديدات فعليّة للدول الأوروبية، فيما يتعلق باستقرارها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، نرى يقظة أوروبية من الغفوة التي فُرضت عليها، ونرى بداية حقيقية للوعي الأوروبي تجاه ما يتهدَّد دوله من أخطار ومهالك تُنذر بها الأحداث الراهنة، وكانت التصريحات الثورية التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء عودته من الصين، بمثابة أكبر تحوّل في طبيعة العلاقات الأوروبية الأمريكية، لا سيما وأن ماكرون يطمح منذ بداية توليه السلطة في الإليزيه لأن يؤدي دورًا محوريًّا في السياسات الأوروبية، وأن يتولى مهامَّ قيادية في هذا الكيان العملاق، خاصةً مع تراجع دور المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل ثم لاحقًا تركها للسلطة وانزوائها بعيدًا عن المشهد السياسي الأوروبي والعالمي، علاوة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبذلك يبدو -عمليًّا- أن فرنسا (وتحديدًا الرئيس الفرنسي ماكرون) هي القوة الوحيدة المؤهلة لأن تقود أوروبا في المرحلة الراهنة.

يبدو جليًّا للغاية أنَّ ماكرون استوعب دروس الأزمة الأوكرانية جيدًا، واستوعب كذلك الأسباب الحقيقية للأزمة الاقتصادية الحالية، وأنها أزمة صدّرتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى العالم من خلال قرارات الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي برفع مستمر لأسعار الفائدة ومزيد من التحكم في اقتصادات العالم من خلال السيطرة على الدولار الأمريكي، إلى جانب تداعيات العقوبات الأمريكية على روسيا، وتأثيراتها الحادة جدًّا على الاقتصاد العالمي.

التصريحات الثورية التي أطلقها الرئيس الفرنسي قال فيها إنه على فرنسا وأوروبا ألَّا تكون تابعة للولايات المتحدة لا سميا في موقفها من الصين، وأن التحالف مع دولة ما لا يعني التبعية لها، بل وأمعن في هذه التصريحات بالحديث عن موقف فرنسا وأوروبا تجاه قضية تايوان؛ من خلال حرصها على بقاء الوضع القائم كما دون تغيير، فيما بدا أنها معارضة شديدة للولايات المتحدة في هذا الملف.

ولم تكُن هذه التصريحات الثورية مجرد مناورة سعى من خلالها ماكرون لتحقيق مكاسب سياسية أو غيرها، كما لم تكن تصريحاته نفاقًا أو تذللًا للصين كما زعم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؛ ودليل ذلك أنَّ ماكرون جدَّد هذه التصريحات يوم الأربعاء الماضي خلال زيارة لهولندا، وقال مرة أخرى إن العلاقة مع الولايات المتحدة لا يجب أن تكون "علاقات تبعية"، وذكر تحديدًا في مؤتمر صحفي بعد اجتماع مع رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، في أمستردام: "أن تكون حليفًا لا يعني أن تكون تابعًا… ولا يعني أنه لم يعد من حقك أن يكون لك تفكيرك الخاص".

لذلك؛ نرى هذه التصريحات بمثابة صحوة فرنسية ويقظة باريسية بعد سُبات عميق تسبب في انحسار الدور الأوروبي والفرنسي خاصة، وتزايد تبعيتهما للولايات المتحدة التي بات يتحكم في مصيرها ثُلة من المتشددين وعجائز السياسية الأمريكية! الآن فرنسا تسعى لنفض غبار عقود من التبعية والسير كالعميان وراء السيد الأمريكي، الذي ما فتئ أن يحقق الأرباح من مبيعات الطاقة إلى أوروبا على حساب تصاعد الأزمات الداخلية. فأوروبا اليوم ليست أوروبا الأمس، وبنظرة سريعة نجد بريطانيا ما زالت تعاني من ويلات الخروج من الاتحاد الأوروبي، بجانب تغيرات ديموغرافية حادة تسبَّبت فيها سياسات متطرفة وأفكار متمردة ومعتقدات أدت لتراجع معدلات الزواج الطبيعي. أما فرنسا وألمانيا فتعانيان من وطأة التحديات الاقتصادية وتداعيات الحرب في أوكرانيا.

التبعية للولايات المتحدة تتجلى في صورتها الاقتصادية من خلال هيمنة الدولار الأمريكي على الأسواق العالمية، وقرارت الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة المصرفية؛ الأمر الذي يعمِّق الركود ويتسبب في خسائر اقتصادية لا حصر لها.

ويبدو أنَّ أوروبا بقيادة فرنسا أدركت -ولو متأخرًا- أن الولايات المتحدة تريد حرق العالم من أجل تحقيق مصالحها الذاتية فقط، والتي هي في الأساس مصالح الحزب الحاكم لمواصلة بقائه في السلطة، فهل تتمكن أوروبا من الانعتاق من الشرنقة الأمريكية، وتتخذ قرارات مُستقلة تدعم مصالحها لا مصالح أمريكا؟ هذا ما ستكشفه الشهور المقبلة لا سيما وأن أمريكا مُقبلة على انتخابات رئاسية وتطورات على الساحة السياسية منها محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب.

رغبةً فرنسا في إنهاء التبعية الأوروبية للولايات المتحدة، تتزامن مع الصعود القوي للدبلوماسية الصينية ودورها المؤثر بشدة في العديد من الملفات الدولية، التي كان يظن البعض أنها حكرٌ على الولايات المتحدة.. فبعد المصالحة التاريخية بين السعودية وإيران برعاية صينية، والمساعي الصينية كذلك لإحلال السلام في أوكرانيا، وتزايد قوة التحالفات الاقتصادية؛ مثل: "بريكس"، وقوة التحالفات السياسية والأمنية مثل منظمة شنغهاي و"آسيان" وغيرها، يبدو أن فسيفساء النظام العالمي الجديد آخذة في التشكُّل لتكتمل الصورة النهائية قريبًا.

ويبقى القول.. إنَّ عملية ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تمضي قدمًا، وتسير نحو النتيجة المتوقعة، وهي تراجع هيمنة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، لصالح قوى عظمى متعددة تضم الصين في المقدمة، ثم روسيا، وها نحن الآن نرى فرنسا تقود أوروبا نحو ترسيخ أعمدة هذا النظام الجديد.