صحتنا النفسية في رمضان

 

 

د. سليمان بن خليفة المعمري*

من فضائل شهر رمضان المبارك ونفحاته الإيمانية الكريمة وما يتسم به من روحانية وطُهر ما يجعل نفسية الصائم تستشعر نوعا من السكينة والهدوء والاطمئنان والقرب من خالقها جل شأنه.

والواقع أنَّ هناك العديد من المؤشرات التي تجعل من هذا الشهر الفضيل شهرا استثنائيا ينعم فيه الصائم بشيء من الأمان النفسي والرضا الذاتي؛ مما ينعكس إيجابا على صحته النفسية، ولعل أحد أهم المظاهر والمؤشرات التي تسهم في سعادة الإنسان وتحسين صحته النفسية أن في هذا الشهر الكريم من الكرامات التي خص الله عز وجل بها الصائمين؛ أهمها: مغفرة ذنوبهم ومحو ما اقترفوه من آثام؛ ففي الحديث الشريف: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (رواه البخاري)، وهذا كفيل بأنْ يجعل نفسية الإنسان تنعم بالهدوء والسكينة وتتخلص من وخز الضمير وعذابات الخطيئة فتشعر بأن الله عز وجل تجاوز عنها وعفا عما سلف من أخطاء، إذ إنَّ ما يقترفه الإنسان في حياته يظل سببا لكآبته وتعاسته كما يقول أبو علم النفس المعاصر وليم جيمس: "إن الله يغفر لنا أخطاءنا ولكن جهازنا العصبي يأبى أن يغفرها لنا".

ومن كرامات هذا الشهر الفضيل أيضًا ويُسهم في صحة الإنسان وراحته النفسية، أنه يُدرب الصائم على ضبط انفعالاته ويقوي لديه الاتزان الانفعالي؛ ففي الحديث الشريف: عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: "وإذا كان يومُ صَومِ أحَدِكم فلا يَرفُثْ، ولا يصخَبْ، فإن سابَّهَ أحدٌ، أو قاتَلَه؛ فلْيقُلْ: إنِّي امرؤٌ صائِمٌ"؛ فيصبح الصائم بهذا الخلق الكريم إنسانا أكثر انضباطا وهدوءا يشعر بالأمان النفسي والسلام الذاتي، فيبتعد عن كل ما من شأنه أن يُثير لديه مشاعر الغضب والحقد والانتقام، ويعيش بمبادئ الحب والتسامح والوئام شعاره: "وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.."، وممتثلًا قول الشاعر:

 

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب **** وإن كثرت منه عليً الجرائم

 

فيعامل الآخرين معاملة أخوية ممتثلا لحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عبدالله بن عمر: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، كما أنَّ مما يشرح نفس الصائم ويعزز صحته النفسية أن الصيام عبادة يغلفها التجرد والنزاهة والإخلاص والبعد عن الرياء والشهرة؛ ففي الحديث القدسي يقول رب العزة: "والصوم لي وأنا أجزي به" (رواه البخاري ومسلم)، ولعل الناظر إلى حال الكثيرين ممن اجتاحتهم حمى الشهرة على وسائل التواصل الاجتماعي يرى الكثير منهم صرعى الأمراض النفسية والعصبية بمجرد أفول نجم شهرتهم أو نقص وتحول متابعيهم عنهم، فهم يستمدون سعادتهم ورضاهم عن ذواتهم من الآخرين، بينما الصائم يستمد طمأنينته وسعادته ورضاه من خلال اتصاله بخالق هذا الكون يحتسب عنده الأجر والجزاء والمثوبة: "وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى" (سورة الليل).

إضافة إلى كل هذه النفحات والكرامات الإيمانية التي تسمو بهذه النفس، وترفع لدى الصائم المعاني الإيمانية، نجد أنَّ رمضان يُعزِّز لدى الصائمين جوانب الصحة العامة، ويدربهم على الترشيد والابتعاد عن النزعة الاستهلاكية؛ ففي الجوانب الصحية نجد أنَّ الكثير من أمراض العصر تكاد تشترك معظمها في سمة واحدة عامة هي "السمنة" الناتجة عن الشره وكثرة الأكل والإسراف في تناول الكثير من أصناف الأطعمة والمشروبات، وحسبنا "أن المعدة بيت الداء"، ليأتي هذا الشهر الفضيل فيمارس الصائم خلاله الكثير من الممارسات الصحية السليمة؛ امتثالا لقوله تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (الأعراف:31)، والقول الجميل المأثور: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع"، كما يدرب رمضان الصائمين على الاقتصاد والبعد عن "النهم الاستهلاكي" الذي يتسبب في تعرض الإنسان لاستنزاف ميزانيته واضطراره للاستدانة ووقوعه في المشاكل المالية، والحق أن إسراف الإنسان في مأكله ومشربه ونهمه لكل ما يراه من كماليات يعرضه للاضطرابات النفسية ويجعله يشعر بالتعاسة والضياع، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه : "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة".

وختامًا.. فإنَّ في هذا الشهر الفضيل ما لا يحصى من المناقب والفضائل التي تغرس لدى للصائمين أفضل الممارسات وأزكى السلوكيات كالذكر: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد:28)، وتقوية الإرادة والإيجابية وتحمل المسؤولية، وكلها قيم وممارسات رائعة من شأنها تحسين الصحة النفسية والبدنية والعقلية لدى الصائم؛ فهو بحق كما قال الشاعر:

 

تكاملت فيك أوصافٌ خصصت بها **** فكلنا بك سرور ومغتبط

 

* إخصائي إرشاد وظيفي

تعليق عبر الفيس بوك