◄ "الطائيون الثلاثة" أسهموا في تأسيس المنظومة الإعلامية مع بداية النهضة
◄ حمد بن عيسى الطائي بين ثلاثة شعراء أفذاذ: أبيه وأخيه وابنه
◄ كتابٌ ورَدٌ وعتابٌ بين حمد الطائي والدكتور إبراهيم الصبحي
ناصر أبو عون
من المُجحف أن نحاكم الشاعر على ما فرّط في جنب الشعر، ونملي عليه ما نرتئيه صوابا، ونتتبع الهنّات من مطلع القصيدة إلى غروب شمسها، وكأننا أوتينا العصمة من لدن قوة علوية، تطل من إيوانها بنظرة فوقية على ملكوت الإبداع، بقوة ثابتة لا تتحوّل لا يأتيها الباطل من نفسها الأمارة بالنقد، ولا يعتريها الوهن من بشريتها المصنوعة على عين الله من طينة النسيان، ولا تأكل منسأتها دابة الحداثة التي تفصلها عن الأصالة ملايين السنين الضوئية من الهرطقات التي لوثت أنهار الأدب؛ فمن الإنصاف أن نحاكم القصيدة- لا الشاعر- بأساليب عصرها، وطقس ولادتها، ونردّ الأفكار إلى أصولها قبل أن نضرب بالمطرقة ونصدر الحكم.
بين ثلاثة شعراء
وبناءً على ما تقدّم لا يستوي مقارنة الشاعر حمد بن عيسى الطائي بمن عاصروه، ما ينبغي لنا أن نخوض فيها، فقد وقع شاعرنا بين ثلاثة أعلام من نوابغ أهله وذويه، كانوا أعلامًا في الفقه والقضاء والشعر؛ وهم: والده الشيخ عيسى بن صالح بن عامر الطائي قاضي قضاة مسقط في عهد السلطان سعيد بن تيمور، وأخيه الفقيه والشيخ القاضي هاشم بن عيسى الطائي، وابنه سماء عيسى (رائد قصيدة النثر في عُمان، وأحد أعلامها في الخليج العربي)؛ والثلاثة كان الشعر ديدنهم ومأكلهم ومشربهم، وتفرغوا للاشتغال بوظائف تعطي الشعر ولا تأخذ منه؛ كالجلوس على منصة القضاء، والبحث في علوم الفقه وأصول الشرع والتأليف والإبداع الشعري، وكلهم شعلة لا يخبو نورها، ويستنيرون مصابيحهم من مشكاة إلهام مهتداة تمثلت في الجد (الشيخ القاضي صالح بن عامر الطائي)، وصاروا أعلامًا في الآداب والعلوم الشرعية، ومَعين نبوغٍ لا ينضب عطاؤه حتى اليوم، وخزانةً مكتنزةً بأصول الفقه ومراجع في القضاء أبوابها مشرعة لا تُوصد، وتشعُّ منها أنوار العلوم الإسلامية، وتستضوأ الأحكام والأصول من مشكاة السابقين الأولين، لتروي ظمأ العقول التوّاقة للمعرفة من خلاصة اجتهادات علماء عُمان النابغين، وتنير الدروب المُعتمة؛ بأنوار الأقطاب الأماجد النابهين.
نسبه وبيئته
فإذا ما بحثنا عن التربة والبيئة المكانية الحاضنة للشاعر حمد بن عيسى الطائي- سواء في كواليس سيرته أو من ديوانه الشعري- وجدنا "بوشر" وقد طبعت ملاحتها في شعره وصفحة وعيه، وأغوار نفسه، ومسقط رأسه، ومهوى قلبه ومربط أشعاره، ومسكن وجدانه؛ فقد كانت بساتينها ملاعب صباه، وعاش في ظلال أفيائها، وعبّ من مجاري أفلاجها، وقرض فيها الشعر بين حاراتها وفي مجالس سبلة (الفوق)، وحوزات (سيبا المال)، وتغنى بأيام الشباب تحت نخلاتها الباسقات، الذي تغنَّى بها في شعره وصارت بوشر تراثا أدبيًّا حاضرًا في كل زاوية من سيرته الذاتية، ومصدر فخار وسؤدد.
أما نسبه من ناحية أبيه فهو ابن الشيخ الشاعر والفقيه قاضي قضاة مسقط عيسى بن صالح بن عامر الطائيّ من زوجته الثانية (ثريا الطائية) وهو من أدباء القرنين التاسع عشر والعشرين النابهين، وأول شاعر عُماني ازدانت بقصائده ومقالاته الأدبية العديد من الجرائد العربية وفي مقدمتها: "الأهرام" المصرية، و"المنهاج" لأبي إسحاق إبراهيم أطفيش الجزائريّ، و"وادي ميزاب" الجزائرية، وينتسب أسلوبه الشعريّ إلى مدرسة "الإحياء والبعث"، ومن آثاره الأدبية الزاهية الكتاب الصادر تحت عنوان: «القصائد العُمانية في الرحلة البارونية» بتحقيق سلطان الشيباني (1434هـ - 2013م)، ويعود تاريخ هذه القصائد زمن تكليف السلطان سعيد بن تيمور له باستقبال المناضل القوميّ سليمان باشا الباروني الليبيّ النشأة والأرومة، والطواف به في ولايات عُمان، والالتقاء بالمشايخ والعلماء والأعيان، ثم أصدرت مطبعة العنان بقية آثاره الشعرية تحت عنوان "ديوان عيسى بن صالح الطائي" بتحقيق حارث بن جمعة الحارثي (1444هـ - 2023م).
صناعة الإعلام والطباعة
غير أن شاعرنا الشيخ حمد بن عيسى الطائي نازعته في حب الشعر نفسٌ وثّابة إلى السفر والاشتغال بالسياسة في مبتدأ شبابه، ثم انصرف عنها- تحت وطأة الوظيفة الحكومية- إلى فنون الطباعة في مطلع عصر النهضة المباركة، وكان ثالث ثلاثة من أبناء عمه الشيخ القاضي والشاعر محمد بن صالح الطائيّ الذين هاجروا إلى بلدان عديدة واشتغلوا بالأدب وصناعة الإعلام، وحصّلوا خبرات جديدة في إنشاء وإدارة الأجهزة الإعلامية وفنون الطباعة التي لم يكن لعُمان منها نصيب وحظ وافر قبل انطلاق عصر النهضة المباركة، وطارت شهرتهم في الآفاق وكانوا من المقربين لملوك وشيخ حواضر الخليج كافة، وتمّ تكريمهم لما بذلوه من جهود في النهوض بصناعة الإعلام في مملكة البحرين، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والكويت؛ حتى إذا ما استوت ملكاتهم على سوقها، ونضجت ثمرة خبراتهم، وأينعت نخلة مهاراتهم، وهم على اتصال بأهلهم في عُمان، وشدّوا حبال أواصرهم بأهلك الملك والسلطان من السادة والأعيان وفي مقدمتهم السيد طارق بن تيمور- رحمه الله- وتوافق فكرهم مع رؤاه التنويرية، وتشابكت آملهم مع أحلامه النهضوية في الخروج بسلطنة عُمان من ربقة الأجنبي واستقلال قرارها، وكسر أسوار عزلتها، واعتصموا في معيته بحبل الله، وحب الوطن. فلما تمّ تكليف السيد طارق بن تيمور عم السلطان قابوس بن سعيد- طيبّب الله ثراهما- بتشكيل أول وزارة مطلع فجر النهضة في سبعينيات القرن العشرين، وقع اختيارهم عليهم ليكونوا عونًا لهم في بناء دعائم نهضة عُمانية وطنية خالصة، فأرسل الخطابات وطيّر الرسائل في استدعائهم، وكان رابعهم الشيخ الدكتور إبراهيم بن حمود بن سعيد الصبحي.
وقد ساهم ثلاثتهم أبناء العمومة (عبدالله بن محمد الطائي ونصر بن محمد الطائي وحمد بن عيسى الطائي) في تأسيس أول منظومة إعلامية لسلطنة عُمان في مطلع السبعينيات من القرن العشرين؛ فأما الأديب عبدالله الطائي والذي أُسند إليه وزارة الإعلام فقد صرف جهده نحو تنظيم وإدارة الإذاعة العُمانية وتطويرها، ووضع خطة لتأسيس أذرع إعلامية تكون صوتًا عُمانيًا خالصًا ومعبرًا عن الصورة الذهنية لمستقبل النهضة الوليدة في عيون الخارج والاشتغال على تنوير الداخل، وتشديد أواصر اللحمة الوطنية. أما أخوه نصر الطائي، فقد صرف جُلّ جهده واهتمامه في تأسيس صحيفة الوطن العُمانية لتكون معبرًا عن سياسة الدولة الحديثة والمتحدث الرسمي عن لسانها. أما الشيخ حمد بن عيسى الطائي، فقد أُسندت إليه في باديء الأمر مهمة إنشاء (دائرة العمل) كنواة لوزارة (القوى العاملة) لاحقًا، ثم تمّ تكليفه بتطوير "المطابع السلطانية" لتكون "المطبعة الحكومية"، والتي تحولت فيما بعد إلى "مطبعة جريدة عُمان". وقد أحدث فيها نقلة نوعية بتنظيم هيكلها الإداري، وتحديث نظام عملها الإداريّ، وتطوير ميكنتها بما يتناسب وتكنولوجيا صناعة الطباعة العالمية ومواكبتها لتقنيات العصر آنذاك، حتى إذا ما قرر مغادرة الوظيفة الحكومية، انكبَّ على العمل وواصل اليل بالنهار وأنشأ مؤسسة الفيحاء التجارية، وأسس 4 مطابع جديدة، هي: مطبعة الألوان الحديثة ومطبعة صحار ومطبعة الفيحاء ومطبعة العنان، وقد أحدث هذا الزخم في هذه الصناعة الوليدة في سلطنة فارقا نوعيا في صناعة الإعلام وطباعة الكتب المدرسية والثقافية، مهّد لنشوء صحافة عُمانية عصرية خاصة وحكومية.
عتاب الدكتور إبراهيم الصبحي
ثمّ تقلبت الأيام بالشيخ حمد بن عيسى الطائي من نجاح إلى نجاح لما يملكه من نفس غير هيّابة من الجديد، وعشّاقة للمغامرة في أسواق الاقتصاد والتجارة، فأخذته في طرائق عّدة تنوّعت معها أنشطته التجارية، ومثابرة لا تنتهي، وجسد لا يكلّ، وروح لا تملّ تعيش في ترحّل دائم؛ فلا يؤوب به من سفر إلا ويحمله على جناح السرعة إلى سفر آخر، وتحطه الطائرات من وجهة إلى وجهة، وتنقله الحافلات على عجل مشبوب بالوجل من شغف إلى شغف لا ينقطع، فكم قادته خطاه في دروب الحواضر والعواصم العربية والعالمية سائحا تارة، وتاجرا تارة أخرى، يعقد الصفقات، ويوقع الاتفاقات، منفردًا كثيرًا، ومجتمعًا لِمامًا بصحبة أرتال من الوفود العُمانية الرسمية وغير الرسمية، يؤمها السفراء ورجالات غرفة تجارة وصناعة عُمان، وانتهى به المطاف إلى تأسيس مؤسسة تجارية دولية كبرى- أشرنا إليها سابقًا- وقد صرفَ شاعرنا جُلّ المتبقي من عمره لهذا العمل التجاري يواصل الليل بالنهار في تطويره وتحديثه حتى صارت مؤسسة الفيحاء ملء السمع والبصر، ويُشار إليها بالبنان.
وفي القلب من هذا الزخم والحياة الصاخبة في عالم المال والأعمال لم تنقطع صلته بأصحاب الجنب الفضلاء الذين كانوا رفقاء رحلته في السراء والضراء، والانتقال من شظف العيش وتقلب الأيام إلى السراء والنعماء، فلم يزل باقيًا على العهد معهم وفي مقدمتهم الشيخ الدكتور إبراهيم بن حمود الصبحي ومن جميل ما كتبه إليه ويندرج تحت باب الإخوانيات إعجابًا بدوره الرائد في حبه للوطن العزيز:
عُمان لك الصبحي ما زال عاشقا // برغم المآسي منك زاد تعلّقًا
فما كان من صديقه ورفيق رحلته الشيخ الدكتور إبراهيم بن حمود الصبحي إلّا أن يتحفه بقصيدة عصماء، يعاتبه فيها على هجرانه للشعر، وتفرغه طيلة يومه ليله ونهاره لتجارة تأخذه من يمينه، وإدارة تأكل الثواني المعدودات عن يساره، وتفني الجميل من عمره؛ فجففت دواته، وأشُحّت مداده، وأغضبت الشعر على هجرانه، فخاصمت الكلمات قوافيه، وعانده الخليل فتاه بين بحوره وأوزانه.. يقول الصبحي معاتبًا رفيقه الطائيّ تحت عنوان: "وللناس فيما يعشقون مذاهب":
يا شاعرًا هجر القريض تخلقا // أغواه قلب في التجارة أغرقا
إن كان حبك للتجارة مغنما // فغدا يكون الشعر حبا أوثقا
هذا حبيب في الفؤاد مكانه // لكن حبيبك للجيوب تسلقا
من قال إن قريحتي لن تنطق // أنا لم أزل في حبها متعلقا
الحب فيها كالجنون شربته // كأسا وأبقت في الفؤاد تدفقا
يا لائمي في حبها أقصر ولا تبد // الملام لعاشق قد أحرقا
نار الغرام أوارها لن ينطفي // إلا إذا نزع الفؤاد ومزقا
سلني إذا ذكرَ الهوى ما حيلتي// إني أسير في الهوى لن يطلقا
أهوى هواها والجبال ورملها // مني الوريد لنحرها قد أوثقا
هبت رياح من مزون فخلتها // تشفي ضراما في الضلوع تفتقا
نفسي إذا ذكرت عُمان تهللت // حتى تكاد النفس منها تشرقا
أنا في عُمان متيم عاشق العلا // أقسمت قلبي دونها لن يخفقا
أقصر ملامك إن غدوت تلومني // واسأل فؤادي لن يجيب تملقا
بوركت يا أم الديار وبوركت // أفلاج خير والغدير ترقرقا
وإن كان شاعرنا ظاهر أمره هجران ومجافاة للشعر، إلا أنه آوى إلى ركن شديد في عالم التجارة والاستثمار؛ حيث ارتأى أن يبني مجدًا موازيًا للإبداع الشعري، ولم يوصد ابواب وجدانه المشرعة في وجه الشعر؛ بل كان يستسلم له مرغمًا حينما يدخل عليه عنوةً مخادعهُ، ويستنهض قلمه من سباته، ويخوض به في بحار المعاني، ويقتطف معه رحيق البلاغة، ويسبح برفقته في لجّة الصور الشعرية؛ فيقف على رؤوس الأبيات شاديا، ويستظل تحت أشجار الخليل الفراهيدي، ويذيب وجدانه في كؤوس الحنين، ويفري حشاشة قلبه ويبثها وينثرها حَبَّا لطيور الكلام فتشدو فوق أشجار الشجن شعرًا غنائيًا ينزّ بالحكمة، ويقطِّرُ شهد التجارب في فم الأيام صورًا تتشظى في سماء الشعر نجومًا تتلألأ، فيسوقها ويهشُّ عليها بعصا الحكمة. ونسوق في هذا المقام من مأثور ما قاله بيتين يعود تأريخهما للعام 1950م وهما يحملان من الطاقة الشعرية الدالة على تمكنه وامتلاكه لناصية الشعر.
كأني وأكليل العلى فوق مفرقي // مليك سما بالتاج وهو فريده
لئن كان تاج الملك رصع جوهرا // فإن بتاجي المجد أثمر عوده
شاعر في عباءة تاجر
فلما أخذته الوظيفة الحكومية من ميدان الشعر، ومن بعدها اخطتفته التجارة أسيرا، وطوحت به هذه وتلك في الفيافي والقفار إلى بلاد بعيدة يعلو الصقيع على صفحة وجهها، وتسلخ المادة وجدانها، فيجد نفسه في منتصف الطريق تتجاذبه الرؤى، وتشد على قلبه رباط الهجر فيذوي قلمه، ويحرن مداد قلمه، فلم يكتب غير سوانح شعرية تفجؤه على عجل فوق سُلّم طائرة أو خلف مقود السيارة، وشيئا فشيئا يتخفى الشاعر في عباءة التاجر، ولا يظهر إلا خجولا ريثما تغزو صدره زفرات من حنين أو تتفصّد فوق جبينه قطرات من شعر استفزتها رؤى قلبه، وزفرات صدره، فجفلت على عجل فأمسك ببعضها وفرّ أكثرها، فأثبت ما قبض فكره من معانٍ شائقة وقوافٍ راقصة في وريقات، كثيرها نأى عنه في ذاكرة القدر فضاع واندثر، وقليلها حفظته دفاتره القديمة وأدراجه المزدحمة برزنامة العمل الإداريّ، حيثما اختلط حابل شعره بنابل تجارته، فلم نعثر إلا على شذرات من قصائد كاملة، وخطرات ناقصة، لم يعاود صاحبها النظر فيها، ولم يُطلعها على ناقد حاذق، فربما قد أشار عليه بمراجعة فكرتها، وتجويد صنعتها، وتصحيح هنّتها.
ولكن ماذا نقول.. هذا هو الشعر مخلوق أنانيّ بطبعه، جنيّ في صفاته؛ إذا سكن الجوانح لا يغادرها، إلّا إذا ضرب صاحبه عنه صفحًا، وقلب له رأس المجن، وأعرض عنه بوجهه زمنًا طويلًا، وكسر دواة وجدانه وأهرق عواطفه، ومزّق قوافيه التي تراوده عن نفسه علو وسادة الإبداع، وخاصم الموسيقى التي تربت على كتفه، وأحاط قلبه بانشغالات العمل اليوميّ الذي أهلك حرث القصيد وأباد نسل الأدب، وحاصر عقله بأفكار المرابحة والاستثمار؛ ساعتها سيفرّ جنيّ الشعر من أي ثُقب في باب الوجدان فلا يعود أبدًا.
شاعر أصيل هجر القريض
هذا ما حلّ بساحة الشاعر حمد بن عيسى الطائي؛ فقد خيّره الشعر بينه وبين دنياه بعد أن كانت البداية في ميدان القصيد تنبيء عن روح تتطلع إلى ديوان العرب وتبحث عن صفحة بيضا تسكنها، وترى فيه الجمال والكمال والدنيا بأسرها، وتعتصم بالكلمة، وتزهو بالعبارة، وتتطلع إلى الإمارة، لكن رياح الحياة، وتقلبات الدهر بالفتى لا تأتي بما اشتهت نفسه التواقة إلى صنعة الكلم، واعتلاء عروش ربّ القلم، وأخذته بعيدا وطوّحت به في مهاوي التجارة فأكلت قريضه من أطرافه، وثوت به في طرقات بعيدة، فخاصمته القوافي وانزوى منه القريض في ركن قصي من الذاكرة، وجفت أمواه قصائده، ونأت به الدنيا وعارضها عن حقول الأدب.
وفي دراستنا للمأثورات الشعرية التي خلّفها الشيخ حمد الطائي، والتي سنتابع نشرها حلقة بعد أخرى- وهي مخطوطة في ديوان جمعه أبناؤه من أوراقه ومن صدور أصدقائه- وجدنا شاعرًا أصيل الألفاظ، جزلَ العبارات- في بدايات حياته- يرسم بريشة سنها مغموس في محبرة القلب؛ لكن هيهات، أو كما أنبأتنا به كُتب الأولين من أنّ «أبو نُؤاسٍ فقيهٌ غَلَبَ عليه الشِّعرُ، والشَّافعيُّ شاعرٌ غلبَ عليه الفِقْهُ»، أما شاعرنا فقد غلبته التجارة فاستسلم لها عن طيب خاطر وهجر الشعر.