أوراق مبعثرة بين البوح والكتمان

 

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

أقبع بين زوايا مكتبي أقلب أوراقي المتناثرة حولي، أداعب محبرتي وأقلامي، ومن خيوط الكلمات أنسج حروف الحب والأمل ممزوجة بضحكاتي التي تشع نورا يتوارى خلف جدران القلوب، اتركيني يا أقلامي أفصح، أشكو، وأتألم، وأروي أزهاري، أخاطب فيها القلب والروح، أبين مشاعري وأتوقف عن إذاعة أخرى، فالبوح فضوح أحياناً ولكن قد نحتاجه، لنرمي متاعبنا وندفنها، في طي النسيان.

سأكسر أقلامي وأنشر الحبر على الجدرانِ البيضاء سأرسم حروفا لتتفيأ بها روحي سموا وعلوا، هكذا سوف أعيش حتى تجف أقلامي وتمتلئ أوراقي ...سأمزق أقفاص العتمة ﻷطير، كالنسر الذي لا يطوي جناحيه طالما أن هناك قمة لم يصلها بعد، فـ"الكتمان المستمر هو مجرد هلاك وانهيار داخلي، لكن بهدوء" (جبران خليل جبران)، فما أجملها من لحظات الفرحة والسرور أن تنجز عملا قال عنه الآخرون بأنه مستحيل، وما أروع أن تلهج لسانك بالشكر والذكر الحسن، لمن كانت لهم يدٌ بيضاء عليك بالتشجيع والتحفيز والمساعدة، والوقوف كالبنيان المرصوص والصرح الشامخ، انطلاقا من قوله تعالى: "وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" [لقمان:12]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله"[رواه الترمذي]، وكما يجب أن يقول: لأولئك الذين كانوا يرمونه بشهب الإحباط، ووابل سهام النقد لتسفيه وطمس أفكاره الجديدة المبتكرة، وتحنيط عقله وفكره في متحف التأريخ، شكرا لهم، فقد كانت حمم البراكين، والشهب الملتهبة، زادا أمده بطاقة فاعلة لعبور الجسور المؤصدة ولولاهم ما اجتاز المسار بأمان، وتخطى الصعاب، وتجاوز الألم، وعقم الجروح النازفة، فقد كانت قنديلا ومشعلا وقّادا ينير الدرب في ديجور الظلام.

وإذا أراد الله نشر فضيلة // طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت // ما كان يعرف طيب عرف العود

لولا التخوف للعواقب لم تزل // للحاسد النعمى على المحسود

يقول أفلاطون: إن تعبت في الخير فإن التعب يزول والخير يبقى..ويقول سقراط: ليس العاطل مَنْ لا يؤدي عملًا فقط، بلِ العاطل منْ يؤدي عملا، في وسعه أن يقوم بما هو أجَلّ منه.

فليكن التفاؤل ثقافة لا تقبل الخوف أو التوقف في وسط قطاع الطريق والمثبطين، إنها روح أخرى ملتصقة بروح صاحبها تظهر آثارها في كل خطوة يخطوها.‏ ولربما هذه الشدائد التي تعتري طريقك اليوم أيها العابر لمسالك النجاح والرقي، ستكون الفصول الشائقة في قصتك التي سترويها غدا للأجيال القادمة، ليقتفي الخلف بالسلف، وتستمر عجلة الحياة بناء وإعمارا، وسعادة وتطورا وابداعا، قد يكتفي المحيطون ببمشاهدتك وأنت تسقط ولكن قد يرسل الله لك من يقوم بانتشالك من سقوطك وأنت لا تلقي له بالا "وما يعلم جنود ربك الا هو" [المدثر: 31].

ثق بنفسك أيها الفارس المغوار وقدس رُوحك وامضِ في مسارات الحياة مُفتخرا بذاتك، وايقن دوما أن لا شيء يجعلكّ أكثر رُقِيا وجاذبية سوىَ أخلاقك، كُنّ شَيّئا جَمِيَلا لا يُنسى، "وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ "(الآية 84، سورة   الشعراء) وتأكد أن هُناك أشخاصًا ينظرُون إليك، ولو أمكن تمنوا أن يكونوا كأنت، فلا تحزن وتذهب نفسك حسرات على ذلك، وامض مقتفيا لسيرة حياة الناجحين واقتبس من هممهم العالية لتحصيل العلوم ونبيل العلى، وتخطي العقبات وتجاوز المحن والمصاعب.

وإذا بلغت القمة فوجه نظرك إلى السفح لترى من عاونك في الصعود إليها وأسال الله ليثبت قدميك عليها، ولا تحطم الجسور التي عبرتها فربما تحتاج إلى العودة عبرها، ‏كما لا تبصق في البئر المهجورة؛ فقد تعود لتشرب منها يوما ما!

هناك فارق بين نقدنا للفكرة وبين كُرهنا للقائل!!

فلنكن مثل الطبيب: يهتم بمحاربة "المرض" لا بمحاربة "المريض"!

فهو يحاول أن ينقذه ويعالجه؛ لا أن يقتله؛ فالعقبات التي نتخطاها اليوم هي الثمن الذي يجب علينا دفعه للحصول على الإنجازات والنجاحات في الغد؛ فالنجاح ليس طريقا سهلًا مُعبدًا؛ بل مليء بالأشواك والعثرات والصخور والعقبات، فعلى من يبتغيه أن يشق طريقه بصبر وثبات.

لم نصل للقمة بعد، فقمتنا عالية تبلغ السحاب، وطموحنا ليس له حدود. ويبقى في داخلنا ووجداننا أمل ينتظرنا، يقول مصطفى صادق الرافعي: إذا لم تزد على الحياة شيئًا تكن أنت زائدًا عليها! اترك بصمتك في العالم، وارسم بسمة أمل وسجل حضورك في الكون وقد أضفت شيئًا جديدا! يا صاح.. شمّر عن ساعديك ولا تكن حملًا زائدًا! ولا غرابة أن بعض الآراء ممن حولك قد تزعجك. وإذ فكرت في التراجع عن أحلامك فلماذا صمدت كل هذه المدة؟!

فلا حياة لمن يظل واقفًا على الضفاف، خائفًا من الأمواج والأعاصير، الحياة لمن يتحرك، يقدِم، يُقبل، يخوض، يتعثر، ينهض، يصبر، حتى يظفر.. فلا مجال للعيش الكريم دون إبداعات النادر من النجوم. ولا تسمح لأي شخص أن يحجب الضوء الذي يشرق من داخلك، فهناك أضواء في آخر النّفق، فحتى لو فشلت، اجعل الماضي أحد جنودك ولا تجعله أحد قيودك.

تعليق عبر الفيس بوك