هل ينهض القطاع الخاص؟

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تتعاظم القناعات بالأهمية الكبرى لدور القطاع الخاص في المرحلة المُقبلة، خاصة وأنَّه يمثل أحد أركان النمو الاقتصادي وركيزته الأولى في مختلف دول العالم، ويتوازى مع ذلك يقين تام بأنَّ الحكومات لن تتمكن من تحقيق نقلات نوعية في القطاعات الإنتاجية والخدمية المُختلفة، ولن تستطيع إيجاد فرص عمل للأعداد المتزايدة من الباحثين عن عمل، دون الاعتماد على قطاع خاص نامٍ ومُمكّن، ولا شك أن أي تصوّر أو اعتقاد غير ذلك، فهو بمثابة إهدار للوقت والجهد والموارد والطاقات.

وللقطاع الخاص أدوار أصيلة في أي تجربة تنموية ناجحة؛ لأنه الذي يرفد الحكومة بالإيرادات، ويخلق الوظائف، ويضخ الاستثمارات ويُعزز عمليات الإنتاج، ويزيد من أحجام التصدير، ويحقق التنويع الاقتصادي، ويعمل على توفير العملة الأجنبية، وعلاوة على ما سبق أنه يُحقق الأمن الاقتصادي، من خلال إنتاج السلع والخدمات المطلوبة محليًا، فضلًا عن تأثيره المباشر على مختلف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة من أجل تمكين القطاع الخاص العُماني وتنميته، إلّا أنَّ العديد من التحديات ما زالت تعيق نمو هذا القطاع، بضغط من الأنماط الاقتصادية التي فرضها النموذج التنموي السائد، والمعتمد على الدور المهيمن للحكومة بفضل ما تجنيه من عائدات النفط زادت أو نقصت، وكذلك استمرار اعتماد القطاع الخاص على استيراد السلع والخدمات لتلبية الطلب المحلي المدعوم بالإنفاق الحكومي. لكن مع تغيُّر احتياجات ومُعطيات التنمية في المرحلة المُقبلة، بات لزامًا على القطاع الخاص أن يحقق النهوض المأمول؛ بل الواجب والحتمي، إلّا أن هذا النهوض يستوجب إجراء تغييرات مهمة في بنية وفلسفة النموذج الاقتصادي، وتطويع العديد من الجوانب في بيئة الأعمال.

وبكل موضوعية، نقول إن الجهات الحكومية خلال الفترة الأخيرة، تبذل قصارى جهدها ضمن مساعٍ حثيثة في هذا الاتجاه، بهدف إصلاح بيئة الأعمال، غير أنَّ هذه الجهود المشكورة، بحاجة إلى مزيد من الإسراع والتعمق في تفاصيل التحديات، فحتى الآن ما زال معدل التوظيف دون مستوى الطموح، والقوة الشرائية للأفراد آخذة في التراجع، علاوة على استقرار الطلب المحلي عند مستويات أقل مما ينبغي أن تكون عليه، إضافة إلى بطء تدفق الاستثمارات الأجنبية والمحلية أيضًا، هذا إلى جانب شكاوى رجل الأعمال من التعقيدات البيروقراطية، وغياب الانسجام بين السياسات المنظمة للجوانب المختلفة للأنشطة الاقتصادية.

ولنهوض وتفعيل دور القطاع الخاص يجب عدم إغفال التعامل مع العديد من الجوانب وعلى رأسها القناعات والذهنيات الراسخة لدى الكثيرين بأنَّ القطاع الخاص ما وُجد إلّا لكي ينتهز ويقتنص الفرص! بجانب الاعتقاد الخاطئ بأن أصحاب الشركات تتنزل عليهم مائدة من السماء حافلة بالأرباح والأموال الطائلة دون أي جهد أو إنتاجية أو عمل!!

من المؤسف أن هناك ثقافة مُجتمعية شائعة تظن كذلك أن المستثمرين وأصحاب الشركات يتصفون بالجشع والاستغلال وأنهم قد يفضلون مصلحتهم الخاصة على المصالح العليا للوطن، وعادةً لا تتغير هذه الادعاءات حتى يثبت عكسها. لذلك يتفق كثيرون على أن هناك حاجة ملحة لتغيير هذه الصورة الذهنية غير الصحيحة، وفي خضم هذه الحاجة يُفتقد بشدة دور وسائل الإعلام في هذا السياق، التي يتعين عليها تبصير المجتمع بحقيقة أدوار القطاع الخاص ومسؤولياته الوطنية التي يتحملها رغم التحديات آنفة الذكر.

والحديث لا يقتصر فقط على أفراد المجتمع، وإنما ينطبق كذلك على المسؤولين في المؤسسات الحكومية؛ إذ ينظرُ البعض إلى القطاع الخاص على أنه "رجس من عمل الشيطان" يجب اجتنابه حتى لا يطغى!! في حين أن الواقع يُظهر لنا الكثير من التجارب والشركات الناجحة التي نُفاخِر بها، ويجب على المجتمع والحكومة العمل على دعم كل شركة تخلق فرص عمل وتُنتج وتُصدِّر، ولنا في قراءة إحصاءات الإنتاج والتصدير والتشغيل خيرُ بُرهان. كما إن المشاريع الاستراتيجية التي تعوِّل عليها السلطنة في الدقم وصحار وصلالة ومختلف محافظات السلطنة، يكمن سر نجاحها في تمكين شركات القطاع الخاص، وتحفيزه على جذب استثمارات أجنبية وفتح أسواق جديدة.

وعند قراءة المشهد الاقتصادي على المدى المتوسط، يتضح عدم كفاية المبادرات الحكومية التي سعت إلى انتشال شركات القطاع الخاص من الضغوط المتتالية والناجمة عن جائحة كورونا ثم انخفاض أسعار النفط، ثم تقليص الإنفاق العام، وما تبع ذلك من تأثيرات زيادة الدين العام للدولة، وانخفاض التصنيف الائتماني، وكل تلك عوامل عدة أثّرت سلبًا- بطريقة أو أخرى- على العديد من شركات القطاع الخاص، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، راضخًا تحت ضغوط مختلفة.

وقد تناولنا في العديد من الكتابات التحديات التي يُعاني منها القطاع الخاص، ومنها الحصول على تمويل بتكلفة مناسبة واشتراطات معقولة؛ إذ أكدت الوقائع أننا في حاجة لرفع وتيرة تحوُّل الجهاز المصرفي وإجراء تغيير جوهري في أسلوب عمل البنوك وأدواتها. أضف إلى ذلك الحاجة إلى المرونة في أُطر الاستثمار، وتسهيل الحصول على العمالة المناسبة، وغيرها من التحديات التي يتمنى القطاع أن تُذلل.

لكن في حقيقة الأمر وعلى أرض الواقع، نجد ذات المُعالجات التقليدية، مع استمرار سيطرة الحكومة على مجالات الاستثمار الرئيسية، ومواصلة تحديد ما يُمكن للقطاع الخاص الدخول فيه أو عدم الدخول فيه، وهذا يؤكد أنَّ بيئة الأعمال لا تتماشى مع التوجهات المستقبلية، وأن التحديات التي تواجهها أكبر من أن تعالجها مبادرة أو اثنتان، لأن المؤسسات الحكومية ما زالت تُدير بيئة الأعمال وهي تعيش في جُزر منعزلة، وكل منها تجتهد على نحو فردي دون تنسيق أو ترتيب مشترك.

هنا نشير إلى أن عدم إشراك القطاع الخاص في عملية اتخاذ القرار من خلال ممثلين حقيقيين له، نابع من خشية البعض من أن تنحاز القرارات المُهمة لصالح شركات القطاع الخاص، وهذا أمر خاطئ تمامًا، فمصالح القطاع الخاص هي ذاتها مصالح الوطن، ولا تعارض بينهما، ولذلك يتعين الحد من ذلك الأداء الذي يُهيمن عليه شعور بالاستعلاء لدى شاغلي الوظائف العامة، لأننا بذلك لن نخلق بيئة أعمال جاذبة، بل سيتسبب ذلك في تحجيم القطاع الخاص وإضعاف آليات تمكينه من القيام بدوره المحوري في المرحلة المُقبلة.

إنَّ المراقب لتصريحات المسؤولين والبيانات الحكومية ذات الصلة ببيئة الأعمال، يصيبه الانبهار بكثرة الحديث عن أهمية أدوار القطاع الخاص وريادة الأعمال والمبادرات والدعم، غير أن الواقع- ووفقًا لأحاديث رجال الأعمال ومؤشرات الوظائف في القطاع الخاص ومؤشرات الطلب المحلي وإقبال المستثمرين المحليين ودخول المستثمرين الأجانب يقول عكس ذلك!

وفي المُقابل، وفي حال تأخرنا عن فهم نسيج القطاع الخاص العُماني، وواصلنا الحديث النظري عن الإيمان بدور القطاع الخاص وأنه قاطرة التنمية، وأن القرارات جميعها تصب في مصلحته، دون إجراءات ملموسة وخطوات عملية فاعلة وناجعة، تنتشله من وضعه الحالي، لترتفع به إلى مراتب الإنتاجية العالية، وتعزز من تنافسيته للانطلاق نحو العالمية، سنظل ندور في دوائر مفرغة، أشبه بالمتاهة التي لا مخرج منها.

أيضًا نؤكد أنَّ الاكتفاء بالقول إنَّنا نؤمن بأن قوة أي دولة من قوة اقتصادها، وأن قوة اقتصادها ترتبطُ بقوة شركاتها وليس بسعر النفط، فهذا لن يُجدي نفعًا، ما لم تُصاحبه ترجمةٌ أمينةٌ لذلك. وهنا يجب ألا نُغالط أنفسنا فيما تشهده الاقتصادات الخليجية من انتعاش حاليًا، وهو انتعاش مردُّه- بالدرجة الأولى- الارتفاع المستمر لأسعار النفط وزيادة إنتاجه، وانعكاسات كل ذلك على مؤشرات المالية العامة والحسابات القومية وميزان المدفوعات ومعاملات النقود والبنوك.

وهناك شبه إجماع على أن الشباب الراغب في تنمية مهاراته واكتساب التدريب اللازم وتوسيع مداركه وتحقيق دخل مرتفع وفتح آفاق لا محدودة للمستقبل، فعليه بالعمل في القطاع الخاص، وأن من أراد تجميد كل ذلك، فليذهب للعمل بالقطاع العام.  وهنا يجب توثيق الارتباط بين العمل والإنتاج، على أنه أساس النجاح، وأن يكون الجزاء من جنس العمل وعلى قدر الإنتاجية، وهذا على عكس من يرى أن العمل في الحكومة يمثل تأمينًا للحياة، ويوفّر وظيفة أبدية.

ولا يُمكن تجنب ربط قضية تمكين القطاع الخاص وتعميق أدواره مع تحقيق مُستهدفات رؤية "عُمان 2040"؛ إذ ترتكن الرؤية بصورة أساسية إلى القطاع الخاص، فيما يتعلق بتحقيق أهدافها كي تصل عٌمان "إلى مصاف الدول المتقدمة"؛ الأمر الذي يستوجب إجراء مراجعة جادة في السرعة التي ننطلقُ بها لمعالجة الاختلالات البينة في بيئة الأعمال.

وللإنصاف نقول.. لقد حظي اقتصادنا بدور كبير للحكومة، خلال المراحل المنصرمة من مسيرة نهضتنا، ولذلك آن الأوان لتمكين القطاع الخاص ليصبح شريكًا حقيقيًا، لا مُساعدًا أو مقاولًا للحكومة، فبدون قطاع خاص قوي وناجح، لن تتحقق التنمية، ولن تستطيع الحكومة مواصلة تحمل عبء الاستثمار والتوظيف لفترة طويلة. لا بُد من مراجعة العديد من السياسات التقليدية المُتّبعة حاليًا، والقضاء على بطء الإجراءات، وتبني تحفيز حقيقي يُغيِّر معادلة تكلفة التشغيل وتكلفة التمويل، ويفتح الأسواق ويُعزّز الطلب والعرض المحلي.

وعلى الحكومة أن تكتفي بدورها الأصيل في التنظيم ووضع الأطر المناسبة، وأن تتجنب مزاحمة القطاع الخاص؛ سواءً بطريقة مباشرة من خلال شركاتها المتعددة، أو بطريقة غير مباشرة من خلال السياسات التي تضعها ولا تخدم نمو القطاع الخاص.

ولذلك نقول إن نشر ثقافة العمل الحُر وتشجيع الشباب على العمل في القطاع الخاص، يستوجب تعاون جميع الأطراف، لضمان جعل بيئة الأعمال أكثر جاذبية وربحية للشركات؛ الأمر الذي سيُحقق التوازن المطلوب.

ونُشيد هنا بالعديد من المبادرات الحكومية في قطاع العمل والتدريب المقرون بالتشغيل، وهي مبادرات ستحقق نتائج إيجابية، شريطة أن تتواكب مع سياسات تتيح للقطاع الخاص حرية الحركة بل والإسراع إلى الأمام، بما يضمن للشركات القدرة على أعمالها وأرباحها لتستطيع دفع رواتب مبادرة التدريب المقرون بالتشغيل بعد انتهاء مدتها. وينطوي الأمر على مبادرة القيمة المحلية المضافة وإعطاء الأولوية للمُنتج المحلي، والذي ما زال في إطار التحضير ووضع الاستراتيجيات والسياسات ولم يصل بعد إلى مرحلة التطبيق.

وختامًا.. إنَّ التغيرات والحراك الإقليمي والعالمي على المستوى الاقتصادي وغير الاقتصادي، يفرض علينا مراجعة العديد من السياسات والإيمان الصادق بأن القطاع الخاص هو الوحيد القادر على نسج خيوط المرحلة المقبلة، وأن بنهوضه ينهض الجميع، والعكس صحيح. فهل ينهض القطاع الخاص؟ أترك إجابة السؤال لكم؟