بيروقراطية

 

د. صالح الفهدي

روى لي أحد الأصحاب قصَّة طريفةً لكن لها معانيها المُعبِّرة، يقول: سألني أحد زملاء العمل: هل تعرفُ فلاناً، فقلتُ نعم، وأسررتُ في نفسي أمرًا حتى حين، فقال: لقد تقدَّم بطلب قديم منذ عشر أو اثنتي عشرة سنة، وقد حصل على المُوافقة اليوم، لكني لا أعرفُ عنوانه، فهل تعرفهُ أنت؟ فقلتُ نعم أعرفه، فقال: صِفهُ لي، قُلت: اتبعني فأنا خارج لبعض المُعاينات الخاصة بالعمل، فتبعني بسيارته، فأدخلته مقبرة، ثم توقفتُ داخلها، فخرج من سيارته مذهولًا، محتارًا، فسألني: لِم جئتَ بي إلى المقبرة؟ هل تسخرُ مني؟ قُلتُ: لقد طلبت عنوان فلان، وهذا هو عنوانه؛ لقد توفِّي منذ عدة سنوات، ولم يمهله الأجل لهذه اللحظة التي يحصل فيها على الموافقة لطلبه، فغضبَ عليَّ، قلتُ: لا تغضب، فقد أردتُ فقط العبرة مما أضحى عليه الحال من تعطيل المصالح، وتأخيرها لسنوات عديدة، حتى يزوي الطموح، والحماس، ويزوي صاحبهما معهما!

هذه قصَّة تنتمي إلى "الكوميديا السَّوداء" حتى إن راويها كان يضحكُ وهو يروي بعض عباراتها، وشرُّ البليَّةِ ما يُضحِك! ولعلها تلخِّصُ حال التعقيدات في المصالح، والشروط التي لا تنتهي، وسُبل الحصول على التراخيص التي لا وضوح فيها، ومبررات الرَّفض التي لا ينظر رافضها إلى مصلحةِ وطنٍ بحاجةٍ إلى أن يُسرع في خُطاه، ويمضي في نماه، ويسابقَ الآخرين في تطوِّرهِ وعُلاه.

سأذكرُ مشروعًا تم افتتاحهُ قريبًا، وقد ناله من التعقيدات ما ناله، ولكن ما إن حصلَ على الموافقة حتى وظَّف كوادر وطنية مساهمًا في حلِّ إشكالية التوظيف، وهو بذلك يُسهم في معيشة أُسرٍ عديدةٍ بحالها، ثم إنه وفَّر على سكَّان المنطقة التسوُّق بعيدًا مما يعني خفَّف من زحمة الشوارع، كما أنَّه حرَّك العقارات من حوله بيعًا واستئجارًا، وأسهم في حراك شركات التوريد، وغير ذلك من الآثار الإيجابية لمشروعٍ واحدٍ فقط، وقد كان رهنَ تعقيدات وتأخيرات واشتراطات لم تنظر لكلِّ هذه الآثار إن هي سُهِّلت ويسِّرت عليه.

لن أركِّزَ على إشكاليات التعقيد التي لم تضرَّ أصحاب المصالح وحسب؛ بل تضرُّ بنماءِ الوطنِ وتطوِّره قبلَ كلِّ شيء، فالإشكاليات مترسِّخةٌ، جاثمةٌ، لا تتزحزح منذُ زمنٍ بعيد، أَمَّا حلُّها من وجهةِ نظري، فقد سبق وأن طرحت مقترحات في مقالٍ لي بعنوان "حوكمة الأداء" في شهر مارس 2020؛ أي مباشرة بعد الخطاب الأول لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- ويشمل المقترحات التالية:

(1)     توسعة صلاحيات مركز عُمان للحوكمة والاستدامة (OCGS) الذي أُنشأ بمرسوم سلطاني رقم 30/ 2015 ليشمل الحكم الرشيد في المؤسسات الحكومية وتمتعه بالشخصية الاعتبارية.

(2)     إنشاء هيئة عُليا مهمتها مُراقبة تحقيق الأهداف والإستراتيجيات الوطنية في الجهات الحكومية المختلفة، وضمان عملها وفقًا لما هو مطلوبٌ منها، وفي مدة زمنية مُحددة.

(3)     تطوير مستوى الأداء المؤسسي في الدوائر الحكومية وذلك عن طريق التقييم المُستمر، وإصلاح الخلل، وتعزيز قدرات الكادر البشري، وتصحيح السياسات، والممارسات، وتفعيل قيم النزاهة والشفافية والمساواة، وإدارة الموارد المالية، واستخدامات الوظيفة، واستغلال السلطة لتحقيق مآرب شخصية، وحماية القوانين من التلاعب، وتفعيل مبادئ المراقبة والمساءلة والمحاسبة درءًا للفساد، وحماية للمال العام وحق المواطنين.

(4)     الاهتمام بالعنصر البشري في المؤسسات الحكومية، عبر برامج مُتخصصة في الحكم الرشيد من أجل صنع ثقافة مؤسسية قائمة على المبادئ المتينة لهذا النهج الإداري في حوكمة القطاع العام، وتوسعة المشاركة في صنع القرار.

وقد سُعدتُ بعد ذلك بصدور مراسيم سُلطانية بإنشاء وحدة مستقلة تتبع جلالة السلطان لقياس أداء المؤسسات الحكومية وضمان استمرارية تقييمها واقتراح آليات رفع كفاءتها، مع قياس جودة الخدمات ورضا المستفيدين منها، وكذلك إنشاء هيئة عليا مهمتها مراقبة تحقيق الأهداف والإستراتيجيات الوطنية في الجهات الحكومية.

لا شك أن إنشاء الوحدة والهيئة سينقل عمل الجهاز الإداري للدولة إلى آفاق الطموحات التي يرنو لها الوطن في مسيرة النماء والتقدم، وسيعزز فرص الإستثمار والإزدهار فيه، وسيخفف من وطء البيروقراطية التي أثقلت كاهله، وخُطاه.

وإذا كان افتتاح صالة "استثمر في عمان" حدثٌ مهم، فإِن خطوة أخرى مشابهة أقترحها؛ إذ سيكون لها وقعها على نماء الاقتصاد، وهي افتتاح "المحطة الواحدة" لإِنجاز المعاملات، واستخراج التصاريح، واقعيًا وإلكترونيًا، حينها ستتلاشى البيروقراطية شيئًا فشيئًا، وسيتخفف الوطنُ من وطأتها، والاقتصادُ من جمودها.