د. صالح الفهدي
لفتت انتباهي تصريحات خبير زلازل ياباني يُدعى يوشينوري موريواكا، حينما استضافته قناة "تركيا بالعربي"، وهي تصريحات آملُ أن تأخذَ بها الحكومات بصورة جادة، يقول الخبير لمُقدمة البرنامج: "أنتم عندكم من يُريد أن يدرس الهندسة المعمارية أو المدنية يدرس أربع سنوات، في تركيا كل من يتخرَّج من الهندسة المعمارية يصبح مُهندسًا، ويوقِّع عقد التوظيف مباشرة بعد التخرُّج، لكن في اليابان هذا الشيء غير موجود عندنا، فلا يعني شيئًا أنَّه درس أربع سنوات أو خمس سنوات؛ فمن بين كل 100 خرِّيج هندسة نختار 5 أو 7 فقط ليُصبحوا مهندسين معماريين، وذلك بعد إخضاعهم للتجارب العملية اللازمة ليكتسبوا الخبرة على أرض الواقع بعد التخرج، مثل الأطباء؛ الطبيب بعد تخرُّجه يدخل مرحلة أخرى وهي التدريب العملي وهذه تستغرق سنوات أيضًا، الطبيب إذا أخطأَ في العملية سيؤدي خطأه إلى موت شخص واحد، أما المهندس المعماري فإن أخطأ سيموت المئات أو الآلاف من النَّاس".
ويضيف الخبير الياباني: "أيضًا هناك موضوع مهم جدًا وهو أن المهندسين الحاصلين على المركز الثاني بعد اختيارهم وخضوعهم لاختبارات صعبة يُسمح لهم بإنشاء المباني الصغيرة فقط مثل الأندية، أما البنايات الشاهقة وناطحات السحاب وغيرها فلا يُسمح لهم أبدًا بإنشائها مدى الحياة".
هذه النظرة التصحيحية يفترض أن يُنظر لها بعمق من قِبل الحكومات، لأنَّ مصائر بشر معقودة بهذه "الألقاب" التي تلصق على الخرِّيج الذي لم يكتسب الخبرة من معترك الواقع العملي، وهذه ثقافة غير صحيحة تكبِّد أخطاؤها أثمانًا باهظة على الصعيد البشري والمادي.
ما حصلَ في تركيا يمكنُ أن يحصل في أية دولة، ولهذا فلا يُغني الدول تشديدها في شروط البناء، وإنما قبل ذلك تشديدها في الصلاحيات التي تمنح للمهندس المستحق للقب الذي يعتمدُ بعد خبرةٍ متميزة، وكفاءة عالية، وأهمية وضع تصنيفات متدرجة بناءً على منجزات عملية، واختبارات، وخبرات.
يقول المهندس بدر الهدَّابي: " للأسف لقب مهندس يطلق على كل من يحمل شهادة في الهندسة فتجد مكاتب هندسية تُدار من قبل مهندسين لا يملكون أساسيات الهندسة والسبب عدم وجود ما يسمى بـ"التصنيف الهندسي للمهندسين"؛ حيث يخضع المهندس لاختبارات ومقابلات شخصية يجب اجتيازها وخصوصًا الأجنبي لا يُباشر العمل إلا بعد اجتيازه هذا التصنيف". وهذا يُدلِّل على الإشكالية التي أتحدَّثُ عنها، والتي قد يكون لها تداعيات خطيرة مستترة، الأمر الذي يستدعي تغيير الثقافة السائدة، وإعادة النظر في المفاهيم غير السليمة.
يحكي المهندس نظمي النصر نائب الرئيس التنفيذي لجامعة الملك عبدالله لبرنامج "من الصفر" قائلًا: "عُيِّنتُ في شركة أرامكو، فأعطيت ورقة لأسلمها إلى رئيس عملي من أجل توقيعها لأبدأ العمل، فدخلت مكتبه، فأعطيته الورقة ووقعها، وأرسلني للعمل على الفور دون نقاش في عمل لا يرتبط بتخصصي، فعدتُ إليه: وقلت له إنني أعتقد أن هناك خطأ، فهذا العمل إنشائي مدني، وأنا مهندس كيميائي، لم أدرس حتى آتي للعمل في بناء العمارات، فلم ينظر لي ولم يجبني بكلمة، فعدت للعمل، ولكن بعد عشرة أيام لم أقتنع بالعمل، فعدتُ إليه وكررتُ له ما قلتُه سابقًا بأنني أعتقد أن خطأ قد وقع في التوظيف، أنا مهندس كيميائي وهذا العمل لا يتطلب هندسة كيميائية، فقرَّب كرسيه مني وقابلني وجهًا لوجه قائلًا: ما الذي يجعلك تعتقد أنَّك مهندس كيميائي؟ قلت له: أنا خرِّيج هندسة كيميائية منذ أسبوعين من جامعة البترول، قال المسؤول الأمريكي: أنتَ تقصد أنك متخرِّج بدرجة هندسة كيميائية، فرق بين هذه وبين إدعائك بأنك مُهندس كيميائي، أنتَ لست مهندسًا كيميائيًا، أنتَ لا تفهم شيئًا عن الهندسة الكيميائية، ومضى يسألني أسئلة سريعة ومربكة ومنها أسئلة عن درجة حرارة الماء حين يُخلط مع الخرسانة، أو قوة الضغط، ولم أستطع أن أردَّ عليه، فقال لي: أنتَ صفر كبير، الحياة هي التعلم، أنت في بداية رحلتك العملية، يفترض أن تكون مُبدعًا في كل عمل تقوم به، اجتهد، اعمل، تعلم، فقم واخرج إلى عملك، يقول: فخرجتُ من مكتبه إنسانًا آخر، صحيح أن كلامه كان قاسيًا لكن كان جادًا، ومنبهًا".
هذا الخطأ المتعلق بإضفاء صفة اللقب "مهندس" فور التخرج، يقاس على الأخصائي النفسي الذي يمنح مباشرة لصاحبه دون خبرة لمجرد حصوله على دورات نظرية معينة، ثم يبدأ على الفور استشاراته النفسية قبل أن يتدرب في مستشفيات متخصصة هي التي تمنحه إجازة ممارسة التخصصات النفسية وتقديم الاستشارات للآخرين، وقد تفضي استشاراتهم إلى دمار البعض من مراجعيهم بدل علاجهم!! ولنقس الأمر على بقية الألقاب الأُخرى التي تمنح للذين يتخرَّجون من دراستهم الجامعية كمثل المحامي، المعلم، الكهربائي، المعالج في مختلف فروع الطب، والصيدلاني وغيرها.
خلاصة القول.. إنَّ مسألة منح الألقاب والثقة الكاملة في مهن لها علاقة مباشرة بحياة الإِنسان دون وجود تصنيفات لهو أمرٌ يعبِّر عن عدم الاكتراث، والاهتمام من قبل الجهات المسؤولة عن هذا الأمر، فالخطأ متوقَّع- إن لم يؤخذ بهذه الاعتبارات- بسبب ضعف كفاءة وخبرة حاملي ألقابها مما يجعل الكُلفة باهظة لا تتحملها الأوطان، ولا يطيقها الإنسان.