ماجد المرهون
يُعد الفرد من صنائع المُجتمع منذ ولادته ونشأته وما يتأثر به من بُنى اجتماعية، وما يلبث أن يكون صانعًا للمجتمع بعد فترة وجيزة من الزمن ومواكبًا لبُناه مؤثرًا فيها، كما قد يعترض قليلًا أو كثيرًا على بعضها لتعديلها لمقتضى الضرورة أو تطويرها وسيعمل على التحديث في محيطه الضيق أو على المستوى الشخصي وربما يُستروح ذلك التعديل لتقوم مجموعة أخرى بتقليده وهكذا يبدأ التغيير، وإن الناظر إلى أي موضوع من بُعدٍ واحد سيراه مسطحًا وليس مجسمًا لكل الأبعاد، فيقع الكثير في عدم فهم أو عدم القدرة على ربط الأنماط والوقائع الاجتماعية، علمًا أنها تظهر مترابطةً فيما بينها ولكن يصعب تفكيكها كل على حدة، وبما أننا نعيش في مجتمع واحدٍ فإننا نتفاعل فيما بيننا ضمن الكثير من الرموز والدلالات التي بُنيت على فترة طويلة ماضية من خلال التأثير الفردي كمبتدأ ثم التأثر وأهمها اللغات اللهجات والأزياء والفنون والعلاقات والممارسات، حتى إذا ما اتخذت شكلًا نمطيًا مُستساغا وأقرب إلى الاستحسان تحورت إلى شكل من أشكال النظام المتعارف عليه وتناقلت بنفس النمط إلى مجموعاتٍ أكثر وأكبر على شكل قانون يجب التقيد به بكل دقة مع فوارق بسيطة من منطقة إلى أخرى حسب التعديل الظرفي لثقافة المكان أو الجغرافي للتبسيط والتسهيل، ككرم الضيافة على سبيل المثال وما يصاحبه من كلمات وحركات، وأنماط التحية والترحيب والتوديع وما يرافقها من عبارات وإيماءات أقرب للميكانيكية، والأساليب المتبعة في المناسبات كالأفراح والأحزان وما يخالطها من تعابيرٍ ولغة للجسد كإظهار المشاعر والعواطف.
كلُ هذه العادات تتخذ لها سلوكياتٍ خاصة متفقٌ عليها عرفًا من المعيب كسرهُ وقد يكون قاسيًا في بعض الأحيان يستدعي الصبر وقوة التحمل، مع أننا نتفاعل مع تيار التحديث من تبسيط وتيسيرٍ للإجراءات على أن تبقى قواعدها ثابتة كأسس متينة لا تتغير مهما طالنا التطور ولا جناح من استثناء بعض المتغيرات السطحية وقت الحاجة، فالوقوف عند استقبال الضيف مثلًا هو قاعدة أساسية والمستثنى هو المُتغير عند الضرورة لعدم قدرته على الوقوف "وفي كل فنٍ صلة نسب" كما يقول الشاعر الألماني يوهان جوته.
كُل طفلٍ عبقري بفطرته لما يجده من غرابةٍ وتعجب في كل شيء ولما تكثر من حوله تساؤلات تتطلب إجاباتٍ صحيحة ولكن الأنماط والقوالب المسيطِرة وأساليب التعليم والتربية هي من تتحكم في تحجيمه من خلال النهج القائم على التحفيظ والتلقين وقد تقتل في الطفل بعض الملكات والمواهب من حيث لايشعر أحد، كما أن المعارف والمهارات الفردية لا تعتمد في بنائها وصقلها على مدارسنا كون التعليم غير مهني أو تخصصي في مراحله الأولى بقدر ما تعتمد على توفر الموهبة ثم صقلها منزليًا وأسريًا، وتتناقص عبقرية الطفل تدريجيًا إلى أن يصل إلى مستوى الفرد العادي جدًا والذي يُعتقد أنه بذلك أصبح طبيعيًا بحسب قانون المجتمع والعرف السائد، مع أنه يتلقى تعليمًا عمليًا جيدًا في قواعد السلوك والعادات والتقاليد المجتمعية إلى أن يبدع فيها ولا يشذ عن القاعدة فيصبح قادرًا على التقاط هزات الفناجين لعدة ضيوفٍ في آنٍ واحد وعن بعد ولا يزيدهم من القهوة شيئًا وإلا وقع في خرقٍ رهيبٍ للقانون قد يوصم بالعار في بعض الأحيان.
لن أطيل كثيرًا في أساليب ونظم التعليم ونوعيته ومخرجاته من حيث المعارف والمهارات فلها خبراؤها من الذين يقومون بتقييمها ولا يحق لي ذلك، ولكن ما سأتطرق له هنا هو السلوك، فإنَّ الأصل في الشيء هو الحلال إلا إذا ورد ما ينافي ذلك ويستدعي الإشارة إليه ومن باب حسن الظن عند استعمال كلمة السلوك على إطلاقها فإنَّ ذلك يعني الإيجابي في وجهه العام ما لم يُسند بقرينة تضعيفية والتي بالضرورة تتطلب التوضيح، فإذا حددنا سلوك مجموعةٍ كبيرة بالضعف فإنَّ ذلك يعني وجود خللٍ ما يحتاج للإصلاح ومن اللائق الإشارة إليه وكشف غشاء الإبهام عنه وتحديده عينًا؛ هل هو من الأفعال وردودها أم التصرفات والحركات والإيماءات، أم هو من الأقوال والمشاعر والعواطف ولغة الجسد؟!
كل هذه الرموز والدلالات تندرج تحت ما يعرف بالسلوك وهي لصيقة لمجتمعنا الشديد التمسك بعاداته وتقاليده والتي تركز على حسن السلوك وتواكب الطفل منذ نشأته الأولى، بالإضافة إلى الآداب التي يتعلمها من خلال المشاهدة والممارسة والتوجيه حتى تترسخ فيه وتصبح قاعدة معيارية يستطيع من خلالها وضع التقديرات والتقييمات الخاصة به في التعامل ومسايرة الركب المحيط به، والقلة التي تشذ عن ذلك تُستنكر وتنبذ.
لا بُد من مراعاةِ مفهوم السلوك والتعامل معه بحسب الفئة العمرية فقد لايتفق سلوك شاب في مطلع العشرينات لقلة خبرته وتجربته مع آخر في الخمسين من عمره مع الأخذ بالاعتبار تقريب الفوارق ومحاولة مواءمتها وتقبلها ما لم تخرج عن العرف المتبع؛ كما أنه من المهم جدًا مراعاة استخدام الكلمات ذات المفاهيم المتعددة في سياق التصريحات الرسمية أو شبه الرسمية والتي تمس شريحةً كبيرة ومهمة من المجتمع، وإن كان ولابد من استخدام كلمةٍ حمالة أوجه في المعنى فمن الضروري إرفاق توضيح بسيط في المبنى أو تركها درءًا لوقوع سوء فهم وما قد يصاحبه من حنقٍ وربما غضب عند عامة الناس وتُخرج الموضوع عن أصله وما أريد له، ثم ندخل معه في إشكالات ومفارقاتٍ كان بالإمكان تجنبها بقليل من التفكير والتروي أو حتى الاستشارة قبل إطلاقها على عواهنها.