من الإرهاب الوظيفي إلى توظيف الطبيعة

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

عندما قررت إنجلترا إنشاء ما سُمي بـ"حلف بغداد" عام 1955م لضرب التجربة الناصرية والمد القومي العربي، استعانت بدول وظيفية تحت نفوذها وسيطرتها آنذاك، وهي: تركيا عدنان مندريس، والعراق الملكي، وإيران الشاه وباكستان المنتزعة قسرًا من الهند. وكانت المهمة الأولى والأصلية لهذا الحلف هي مواجهة القومية العربية والمد الناصري في المنطقة، وتشكيل قواعد عسكرية متقدمة للغرب وحلف الناتو في المنطقة.

فشل حلف إنجلترا بقيام ثورة 14 يوليو 1958م بالعراق وإسقاط الملكية، ثم توالت نكساته بانسحاب باكستان، بعد خذلانها من أعضاء الحلف في ملف قضية كشمير مع الهند، تلتها قضية إعدام عدنان مندريس في تركيا عام 1960م، ثم أطلقت إيران الثورة رصاصة الرحمة على أشلاء الحلف عام 1979م؛ حيث طوت إنجلترا ملف حلفها في عام الثورة وأعلنت عن إلغائه دون طقوس أو مراسم.

وتوالت حلقات كثيرة للتآمر على الأمة العربية بشكل كلي أو جزئي أو حتى فردي، كلما قام نظام عربي فاعل بإشهار عصا الرفض والتحدي للغرب وهيمنته وأدوات استعماره الجديد، فكانت مصر في زمن الزعيم جمال عبدالناصر الهدف الأول للغرب؛ حيث تحمّلت مصر جُهد المعركة والمؤامرة ما بين عامي 1952- 1970، إذ بقيت الحرب وتوزعت معاركها بالنسبة والتناسب على الأقطار العربية الفاعلة بعد رحيل الزعيم، وتمثلت تلك المعارك تجاه العراق وسورية وليبيا والجزائر.

ثم شكّل "الربيع العبري" سابقة في التاريخ العربي الحديث من حيث الشكل والمضمون وعنصر المُباغتة، فأحدث شرخًا كبيرًا في الأمة، ولكنه كسابقاته من المؤامرات سرعان ما استعادت الأمة توازنها واستعانت بخزين مناعتها لتقف على أقدامها؛ كونها أمة عصية في ضعفها وعصية في قوتها، وكما أناط بها الله وشرفها وكلفها لتكون خير أمة أخرجت للناس. شكّل الإرهاب الوظيفي عصب "الربيع العبري" المدعوم بقوة من الغرب، وكان جهد المعركة منصباً على محور "بغداد- دمشق" بعد تدمير "ليبيا القذافي" وتحويلها إلى مرتع للعصابات والميليشيات وبيت مال لجماعة الإخوان والإرهاب الوظيفي. وما زال هناك من يتغنى بالإرهاب ويصفه بـ"الثورات الشعبية المُباركة" رغم جميع المؤشرات والحقائق والتصريحات من الغرب أنفسهم بالربيع وأهدافه وأدواته.

صرح رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي الأسبق بأنه حضر اجتماعاً بلندن قبل عامين من الربيع مع عدد من نظرائه الأوروبيين، وأنه اطلع على مخطط الربيع مع التركيز على تدمير سوريا كدولة محورية في المنطقة تؤرق الغرب والكيان الصهيوني بمواقفها السياسية ودعمها لفصائل المقاومة، وهذا مجرد غيض من فيض اعترافات ومذكرات وشهادات لم تعد تحتمل الاجتهاد أو التأويل بأن ما حدث هو فصل مؤامرة جديد بلبوس ثورات جياع وطلاب حريات!

الزلزال الأخير في تركيا وسوريا ينقلنا إلى إرهاب جديد عنوانه إرهاب الطبيعة وتوظيفها كسلاح إرهابي، فكما غلف الغرب مؤامرته على الأمة واسماها زورًا بـ"الربيع" وجعل مقدمتها مطالب معيشية وفتات حريات وديمقراطية لتبدو المؤامرة طبيعية ومتوقعة بحسب القراءات التحليلية التراكمية للأحداث، وكما وظف الفيضانات والأعاصير كحروب بفعل علم هندسة المناخ وغاز الكيمتريل؛ حيث جعل بفعله فيضانات هنا ومجاعات هناك بفعل الجفاف والسنين العجاف، ها هو اليوم يُشهر سلاح مُحفز للزلازل يسمى بـ"السلاح التكتوني"، هذا السلاح الذي يُقال إنه كان خلف زلازل أرمينيا عام 1988؛ حيث يُتهم الاتحاد السوفييتي بأنَّه أول من امتلك هذا السلاح الفتاك عام 1980.

الآن وبغض النظر عن صدقية هذه الرواية من عدمها، علينا قراءة بعض المؤشرات التي سبقت هذا الزلزال ومن الغرب نفسه، والتي يمكن من خلالها التيقن بمعرفتهم بما سيقع، وكان هذا عبر مغادرة البعثات الأمريكية و9 بعثات دبلوماسية غربية أخرى منها (بريطانيا، ألمانيا، السويد، هولندا، فرنسا) لتركيا بطلب من بلدانها قبل حدوث الزلزال بأيام؛ الأمر الذي أثار ريبةً وشكوك تركيا ودعاها إلى استيضاح تلك البلدان عن خطوتها هذه غير المسبوقة في العلاقات بين الدول والأعراف الدبلوماسية، والأغرب من كل هذا هو تحذير أمريكا لرعاياها في تركيا وتحديدها لمناطق بعينها ووصفها بالمناطق غير الآمنة.

مُجمل القول.. إن الغرب فقد فائض القوة التي كان يناور بها خارج جغرافيته فيما مضى من الوقت؛ بل وفقد الكثير من القوة التي تمكنه من فرض نفسه على الآخرين، حيث لم يعد الغرب هو اللاعب الوحيد على الساحة، كما إنه يعاني وبوضوح شديد من أعراض "عجز القوة"، هذه الأعراض التي جعلت عددًا من صغار من يسمون بالحلفاء للغرب يغادرون هذا الحلف؛ بل ويتجاسرون عليه ويجاهر بعضهم بالتنمر عليه والوقوف في وجهه متحديًا له، ونحن في الوطن العربي بحاجة ماسة إلى التيقن والإدراك وبصورة قطعية الدلالة بأن الغرب عدو وسيبقى عدوًا، ولن يكون حليفًا لنا ولا مدافعًا عنَّا ولا راعٍ لمصالحنا، وعلينا أن نتيقن وندرك كذلك أن ضعفنا قرارٌ، وقوتنا قرارٌ كذلك؛ لأن الصراع بيننا والغرب في حقيقته وجوهره صراعُ إرادات لا صراع أسلحة وجيوش.

قبل اللقاء.. ما زال الكثير من عرب اليوم بنخبهم الرسمية والعامية في إشكالية كبيرة لتوصيف وتصنيف الغرب، هل هو عدو كامل أم نصف عدو أم شيطان أم ملاك؟! لذا لم نحسم بعد فهم ماهية الصراع مع الغرب، ولا أدوات الصراع، ولا موقفنا الاستراتيجي المُفترض من الغرب، لهذا نعيد إنتاج المآسي والفشل.

وبالشكر تدوم النعم.