حاتم الطائي
◄ بناء تكتل جديد يتبنى مبدأ عدم الانحياز يسهم في إرساء السلام العالمي
◄ نعيش فترة أشبه بأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية.. ولا بديل عن التعايش السلمي
◄ يجب حصول دول "عدم الانحياز" على مقعد دائم بمجلس الأمن الدولي
في الوقت الذي تصاعدت فيه وتيرة الصراعات حول العالم بين عدد من القوى العظمى، ومع الحرب المُشتعلة في أوكرانيا، وما تواجهه مختلف الدول من توترات تهدد بإضرام النيران الحارقة في أرجائها، تتزايد الحاجة الماسة لإحياء مبدأ عدم الانحياز، وإعادة ترسيخ هذا المفهوم على المستوى الدولي؛ بما يضمن تحقيق كل ما من شأنه أن يدعم الاستقرار في العالم وينشر السلام والرخاء والتنمية المستدامة.
فالأوضاع العالمية الراهنة لا تُبشر بأي مستقبلٍ تزدهر فيه الدول، أو أن تنعم بالاستقرار والتقدم؛ بل تتزايد المخاوف من مغبة اندلاع حرب عالمية ثالثة، ربما يرى البعض أنها قائمة فعليًا عبر سلسلة من الحروب العسكرية أو الاقتصادية أو حتى الحروب الثقافية الساعية إلى نشر ثقافات وأفكار عقائدية تتنافى مع القيم الإنسانية السمحة، وتتعارض مع الفطرة السليمة التي خلقنا الله عليها.
وقد بات الخوف من المستقبل وغياب التفاؤل في نفوس معظم شعوب العالم، سمةً غالبةً؛ الأمر الذي يدفع المواطنين في أنحاء المعمورة إلى تبني خيارات غير صالحة لتحقيق العيش الآمن والاستقرار المنشود، فنجد شعوبًا تختار التيارات الأشد تطرفًا لكي تمثلها سياسيًا، وتتولى قيادة الدول، فتلجأ هذه القيادات المتطرفة في الأصل إلى تبني نهجٍ أكثر تطرفًا، وأشد عدوانًا على حقوق الغير. رأينا القدر غير المعقول من الغيرة والحقد على قطر الدولة الخليجية العربية التي نجحت في استضافة كأس العالم لكرة القدم، فأنتجت أفضل نسخة للمونديال الكروي الأكثر شهرة في العالم، ليس تقليلًا من إمكانيات قطر أو كفاءتها في التنظيم، ولكن من باب الحسد والرغبة في عدم إنجاح أي نموذج يدور خارج الفلك الأوروبي أو الأمريكي. شاهدنا الحرب الاقتصادية الطاحنة التي شنتها الولايات المتحدة على جمهورية الصين الشعبية، إبان حُكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، رغبةً من الإدارة الأمريكية في هدم وتشويه النموذج الصيني القائم على التعاون الاقتصادي لا سواه، وإمعانًا في التسلط والهيمنة التي تمارسها الولايات المتحدة على حكومات ودول وشعوب العالم قاطبةً، فنشبت حربٌ اقتصادية كلفت الاقتصاد العالمي الكثير، ما تسبب في تراجعات بمؤشرات اقتصادية عديدة، وأثر بالسلب على النمو الاقتصادي العالمي. وما فاقم حدة هذه الحرب، أزمة وباء "كوفيد-19" والتي فرضت ضغوطًا هائلة وغير مسبوقة على اقتصادات العالم، وأفرزت أزمة اقتصادية هي الأعنف منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن المنصرم.
العالم الآن يعاني من مستويات تضخم لم يسجلها منذ عقود، وتباطؤ شديد في النمو الاقتصادي، سقطت على إثره اقتصادات كبرى في براثن ركود اقتصادي حاد، يُنذر بكساد قد يدوم معنا لسنوات. وتبِع ذلك- وكنتيجة حتمية- تدهور أوضاع الكثير من دول العالم، وهروب الاستثمارات الأجنبية، وانهيار عدد من الاقتصادات، وتهاوي قيم العملات الوطنية مقابل عملات الاحتياط العالمية وعلى رأسها الدولار الأمريكي، ودفع ذلك صندوق النقد الدولي أن يتوحش ويكشر عن أنيابه للكثير من الدول، ويمارس لعبته المفضلة بإيعاز من الدول العظمى التي تتحكم في موارد الصندوق، فوجدنا الصندوق الدولي يقدم قروضًا للدول التي تُعاني من تدهور ماليتها العامة، وفي المقابل يفرض شروطه القاسية التي لا تخدم سوى المصالح الغربية، فيأمر الدول بالتخلي عن مؤسساتها وشركاتها الوطنية من أجل هدم الصناعات الوطنية وإضعاف سيطرة الدولة والحكومة على اقتصادها، فتظل في حالة احتياج مستمر لقروض الصندوق الدولي، ومن ثم الخنوع التام لمطالب الدائنين، وارتهان القرار الوطني لصالح القوى المتنفذة، وما أسوأ من ذلك؟!
ولا ريب أنَّ المناخ العام في العالم الآن يُشبه إلى حد كبير أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية؛ فالركود الاقتصادي ينال من دول العالم، ومعدلات الفقر في تزايد رغم ما توصل إليه الإنسان من تقدم علمي واقتصادي وفكري، والغضب الشعبي في العديد من الدول يتزايد نتيجة لعدم كفاية الموارد في مواجهة الاحتياجات، وعجز السّاسة يتفاقم بسبب القيود التي تفرضها الديون المتزايدة، وعدم قدرتهم على اتخاذ قرارات تحقق الرخاء والاستقرار. أضف إلى ذلك، حربًا دائرة في قلب أوروبا؛ روسيا من جهة، وأمريكا وأوروبا الغربية من أخرى، وما يؤجج هذا الصراع المساعي الغربية الحثيثة لتسليح أوكرانيا وحشد الدعم العسكري بأحدث الآليات مثل الدبابات والطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي وغيرها.
كُل هذه المخاوف وغيرها، تدعونا دعوةً صريحةً لأن نحشد الطاقات والهمم من أجل إرساء نموذج عالمي للسلام، عبر بناء تكتلٍ دولي يرفع شعار "عدم الانحياز"، يضمُ جميع الدول الرافضة لسياسات الاستقطاب المُعلن والخفي، والمُمانِعة لأية حروب تدمر الدول، والمعارضة لكل ما من شأنه أن ينال من نموذج الدولة الوطنية القائم على المؤسسات المتماسكة والمتعاضدة، وتحويلها إلى دويلات أو أشباه دول، تكون لُعبة في يدِ القوى العظمى، فتُغرقها في الديون اللا نهائية، وتنال من سيادتها، وتتدخل في صناعة القرار فيها، وتعبث بأمنها القومي، وتضُر بمصالحها الحيوية، وتزلزل الأرض من تحت أقدام ساستها ومسؤوليها، وفي نهاية المطاف يجري تقسيمها وإضعافها كي لا تقوم لها قائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها!
ويتولى "تكتل عدم الانحياز" مُهمة الدفاع عن السلام العالمي وترسيخه كنموذج للتعايش والاستقرار في أنحاء دول العالم، وسلطنة عُمان ودول الخليج العربي مؤهلة بدرجة كبيرة كي تحمل على عاتقها استضافة هذا التكتل، بمساعدة دول مثل الهند والبرازيل والصين وماليزيا وتركيا، لكي تقود الجهود من أجل إرساء نظام عالمي جديد يكون بمثابة "الطريق الثالث"، كما أراد مؤسسو حركة عدم الانحياز مطلع ستينيات القرن الماضي؛ ليكون هذا المسار بعيدًا كل البُعد عن الاستقطابات مهما كان نوعها، فنيران الحرب ربما تسري إلى دول أخرى، وعمليات الاستنزاف المُمنهج للموارد تمضي على قدم وساق، فلا روسيا قادرة على حسم المعارك، ولا أوكرانيا حققت انتصارات، مُنتجة حالة اللا غالب واللا مغلوب.
ويبقى القول.. إنَّ على قوى السلام أن تتحد في هذا التكتل المقترح، وأن نُعيد إحياء ما سعى إليه قادة تاريخيون أمثال جمال عبدالناصر، وجواهر لال نهرو، وأحمد سوكارنو، وجوزيف بروز تيتو، وغيرهم، ممن آمنوا بضرورة الانعتاق من شرنقة الدول العظمى ونشر السلام في العالم كي يعم الرخاء. ومن خلال هذا التكتل يمكن المطالبة بكرسي دائم في مجلس الأمن الدولي، كي تُسهم هذه الدولة في تمتين أواصر السلام الهش حاليًا، ومواصلة الجهود لنشر السلام العالمي باعتباره أساسًا للتنمية المستدامة.