هل الوظيفة من العبودية؟!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"إنَّ الوظيفة هي عبودية القرن العشرين".. عباس محمود العقاد

 

******

 

قبل سنوات إبّان بداية عهد عمرو موسى كأمين عام لجامعة الدول العربية، وكان بكاريزميته الشهيرة قد أعطى المنصب وهجًا مُختلفًا، اتسم بكثرة تصريحاته عن كثير من القضايا ذات الجدلية السياسية بين الدول العربية، وأدلى موسى وقتذاك بتصريح يخص دولة الكويت لم يستلطفه وزير الخارجية الكويتي آنذاك الشيخ صباح الأحمد (رحمه الله)؛ حيث لما سأله الصحفيون عن تصريح موسى، قال إن موسى موظف، وطبعًا واضح المعنى.. بعدها بفترة قصيرة أوضح الشيخ صباح أنه لا عيبَ في صفة المُوظف، وأنه ذاته موظف؛ كونه يتسلم راتبًا مقابل عمله، ولا شك أنَّ الإجابة الدبلوماسية الرشيقة من سيد الدبلوماسية الكويتية تعطي عدة إشارات؛ أهمها أن كل من يعمل بمقابل مالي فهو موظف، ولا عيبَ في ذلك، وأنه هو نفسه موظف.. وهنا ندخل إلى الإجابة عن: من الموظف؟ وما الوظيفة؟

هل الوظيفة عبودية وقاعدة العبد والسيد، أم هي ببساطة ليست إلا تلازمية العمل مقابل الرغيف؛ أي أنك تعمل ليس سوى لحاجتك لحياة أفضل ومعيشة أرقى وعمل تطوِّر فيه قدراتك وتعتبره بابًا من أبواب الخدمة للوطن؛ بل إن هناك الكثير ممن يعتبر عمله الوظيفي فرصة لاحتساب طيب الأجر، من خلال أن العمل عبادة وخدمة البلاد والعباد بصدق وأمانة لها أجرها الطيب عند رب العباد. أما أن تُسمى الوظيفة عبودية، فنحن لا نعبد سوى الله سبحانه وتعالى، والعبودية له وحده جل في علاه، أما العبد المملوك فهو لا يأخذ راتبًا أو أجرًا مُقابل عمله.

العبد بمفهوم العامة (أو الناس) هو المملوك، وبعصرنا الحالي لا تسمح القوانين بلفظ عبد، أو مملوكية إنسان لإنسان، رغم أن الواقع يفنِّد هذا الأمر، لكنه بشكل عام لا يوجد عبد بمعنى العبد المملوك. أما الوظيفة فأعتقد أن إسباغ صفة العبودية عليها، وأنها عبودية العصر الحديث، فتلك- كما أظنها- مبالغة ليست في محلها. ولعل عبارة العقّاد الشهيرة بشأن الوظيفة ليست صحيحة على الإطلاق. بالطبع أن العقاد- رحمه الله- قامة أدبية باسقة وليس لي أن أجاريه، وهو اسم مُجمع عليه، لكن له أفكار نأخذ منها ونرد عليها، فلسنا في حضرة كِتابٍ مُنزل من رب العالمين، إنما له احترامه لعلمه وتاريخه، وتوقير ما يقول، لكن ليس عيبًا الاختلاف مع أية مقولة. وهنا أؤكد أنني قد أكون على خطأ، ولا أدعي الصواب المؤكد. لكنها وجهة النظر الشخصية.

لو وضعنا الأمر في خانة التفكير الآني وبالغنا قليلًا، فلنقل إن الحاجة للراتب أو المقابل المالي هي التي جعلت الإنسان- رجلًا كان أم امرأة- يسعى لطلب الرزق من خلال الوظيفة لتأمين مقابل مالي يعينه على مواجهة مجريات الحياة، أو لتأمين مستقبل أفضل.

ولنفرض أن الإنسان يعمل عملًا حرًا (أي يعمل لحسابه الخاص وليس مرتبطًا بوظيفة)، ألا ينطبق عليه ذات المفهوم؟!

لا أدري كيف يتم تكييف طريقة كسب الرزق، وانصهار الفرد في مجتمعه من خلال دوره الفعال- كما يُفترض- في إداء واجبه الوظيفي؟!

لكني أنصرف إلى اعتقادي بأن العبودية الحقيقية بمفهومها السلبي هي عندما يقف الكريم على باب اللئيم، أو من ابتلي بالدَيْنِ، الذي هو ذل بالنهار، وهمٌّ في الليل؛ فهو مثل التائه الذي يتمنى التخفي من دائنيه (وقانا الله وإياكم شر الدين).. لذلك واضح أن الفهم مختلف ولكلٌ فهمه الخاص لمعنى العبودية.

قال لي أحد الأحبة إن العبودية موضوع متشعب جدًا له أكثر من وجه: تاريخي وديني وفقهي، وأني أنظرُ إليه بالحدة التي ذكرتها. لكنه يرى أن فكرته عن العبودية بسيطة وهي إساءة الموظفين لبعضهم البعض في السلم الوظيفي بتعامل غير لائق (انتهى كلامه). هنا أعتقدُ أننا ندخل حيزًا مظلمًا في تنظيم الأعمال المناطة بالمؤسسات المليئة بالموظفين (سواء القطاع العام أم الخاص)، وهو المليء في حيز التنافسية السلبية العوجاء، التي يُقدَّم فيها الفاشل على الناجح، والمتسلق على المُستحِق، وكذلك عندما تتدخل عوامل لا علاقة لها بالكفاءة؛ لوأد الموظف المميز وحجبه عن الترقية وتصعيد من ليس بالكفاءة المطلوبة. هنا أعتقدُ أن الأمر نفسيًا قد يغبن الموظف المستحق، لكن المؤسسة ولا شك هي الخاسرة، وكم من كفاءات نادرة ماتت مواهبها ودفنت في غياهب التجاهل الإداري المثخن بالفشل، لربما يوجد من الكفاءات من أنتقل لجهة أخرى وكان الفأل الخير له، وقدرت مواهبه حق التقدير، والعكس بطبيعة الأحوال صحيح.

وفي مدخل تاريخي لعله ليس بعيدًا عن فكرة مقالنا، يصف أحد المؤرخين علاقة الحُكّام بشعبهم من خلال تصنيفهم إلى 3 فئات؛ الأول يجعل الرعية في منزلة الأبناء، والثاني يضعهم في مكانة الإخوة، والثالث يتعامل معهم باعتبارهم "خدم"!!

هل لهذا المدخل علاقة بموضوع المقال، أعتقد نعم، وعلينا مراجعة التاريخ لفهم دور كل منهم، وكيف سارت الأمور مع الرعية؛ إذ إنَّ مُعاملة الحاكم مع الرعية كالأبناء أو الإخوة، تختلف عن معاملتهم مثل "الخدم"، وشتان بين الثرى والثريا.

الأكثر قراءة