الباحثون عن عمل.. قضية إنسانية

د. سالم بن عبدالله العامري

عندما نتحدثُ عن مشكلة الباحثين عن العمل نجدُ أن أغلب المعنيين والمختصين بقضية الباحثين عن العمل؛ سواءً كانوا أفرادًا أو مؤسسات رسمية أو غير رسمية، يتحدث عنها على أنها أرقام وإحصاءات، وقلَّ ما نجدُ من يتحدث عن الأذى النفسي أو الآثار السلبية على آلاف الشباب الباحثين عن العمل، وأسرهم التي أنفقت وضحّت من أجل تعليم وتأهيل أبنائها، .

الجانب النفسي والآثار السلبية عوامل في غاية الأهمية، وآثارها على الفرد والمجتمع عديدة وخطيرة، وجيل الشباب هو جيل العمل والإنتاج، والطاقة والمهارة، وأن تعطيل تلك الطاقات والمهارات يؤدي إلى مشاكل نفسية واجتماعية وأمنية على الباحثين عن العمل وأسرهم يتمثل بعضها في العنف، والإدمان، والجريمة، والإحباط والانطواء والعزلة، والمرض والاكتئاب، والديون، إضافة إلى مشاكل أخرى مثل انخفاض القوة الشرائية، وانخفاض الناتج الوطني، وانخفاض المستوى المعيشي، والتضخم، وأعباء أخرى عديدة، يُحمِّلها الباحثون عن العمل مؤسسات المجتمع الحكومية والخاصة المسؤولة عن ملف التوظيف.

الآثار النفسية والسلبية عديدة وخطيرة، والجميع يعرفها ويستشعرها، ولكن، للأسف المشكلة تتزايد بسبب ارتفاع أعداد الباحثين عن العمل، وقلة توفر الحلول أو بالأحرى نجاعة الحلول المقدمة أو المقترحة لتوظيف الباحثين عن العمل.

وعدم إيجاد فرص عمل للشباب المؤهلين والقادرين على العمل، تشكل تحديًا كبيرًا على تنمية المجتمعات؛ مما يؤدي إلى تراجع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للشباب وأسرهم والمجتمع بأكمله، وينعكس سلبًا على مشاركة الشباب في بناء المجتمع، ويزيد من سنوات الإعالة الأسرية؛ حيث يعتمدُ الشباب على أسرهم في تأمين متطلبات الحياة؛ مما يؤدي إلى تأخر سن الزواج لدى الشباب من الذكور والإناث. كما إن عدم قدرة الشباب على المشاركة الفعّالة في الحياة يزيد لديهم الإحساس بعدم الانتماء للمجتمع المحيط بهم، وغالبًا ما يكون الفرد العاطل عن العمل عرضة لارتكاب أفعالٍ منافية للنظام والقانون والسلوك العام للمجتمع ويضر نفسه وأسرته والمجتمع بشكل عام.

من المؤسف أن نسمع أو نرى في الأسرة الواحدة شبابًا جامعيين باحثين عن عمل، قد قضوا سنوات طوال في الدراسة، وربما دفع أهاليهم تكاليف باهظة الثمن من أجل تعليمهم، ولا يجدون بعد ذلك فرصة للعمل؛ الأمر الذي يتسبب في تعب نفسي شديد لهم وللمحيطين بهم، وللمجتمع أيضًا.

وعلى صعيد الدراسات العلمية، أثبتت الدراسات أن الأشخاص العاطلين عن العمل أكثر عرضةً للأمراض المزمنة على الرغم من صغر سنهم؛ مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، وارتفاع ضغط الدم، والاكتئاب، والاضطرابات العضلية الهيكلية. وأشارت دراسات إلى أن البطالة تتسبب في بعض السلوكيات السلبية مثل شرب الكحوليات، والتدخين والإدمان بأشكاله المختلفة، وأن ازدياد أعداد الباحثين عن العمل، من الشباب يُنذر بخطر ربما يطال المجتمع في جميع الجوانب؛ الأمر الذي من شأنه أن يزيد من معدلات الجنوح والجريمة وانتشار المحظورات في المجتمع.

وعلى العكس تمامًا، فإنَّ إيجاد فرص عمل سيساعد على استقرار المجتمع، وزيادة قدرة الشباب على إعالة أنفسهم وأسرهم والتقليل من نسبة الفقر، والمساهمة في تحقيق التنمية الشاملة.

ما زالت أعداد الباحثين عن العمل تزداد، وما زالت جامعاتنا، وجامعات عربية وأجنبية تخرِّج سنويًا العديد من الخريجين في مختلف المهن والتخصصات، وتضخهم في سوق العمل؛ ليواجهوا وحدهم هذا السوق الذي تقلّص مؤخرًا مُتأثرًا بظروف محلية وأخرى خارجية. وقد كشفت وزارة العمل أن عدد الباحثين عن العمل حتى نهاية أكتوبر الماضي بلغ أكثر من 85 ألف باحث عن عمل، رغم توفير ما يقارب 35 ألف فرصة عمل خلال عام 2022، وعلى الرغم من وجود خطط وبرامج حكومية للحد من زيادة أعداد الباحثين عن العمل إلّا أنه ما زالت أعدادهم في تزايد، فمنهم من لا يجد عملًا لسنوات في مجال تخصصه الذي درسه وتأهل فيه، وقد يضطر جراء ذلك للعمل في مجالات وتخصصات أخرى دون تأهيل أو دراسة وبرواتب منخفضة وبشروط صعبة لا تتوفر فيه أدنى معايير الأمان الوظيفي المناسبة.

لا شك أن الحكومة حريصة على معالجة مشكلة الباحثين عن العمل، وأن المشكلة من وجهة نظري ما زالت محدودة، ومن الممكن السيطرة والتحكم فهيا إلى حد كبير، ومعالجتها إذا توافرت البيانات والمعلومات الدقيقة، والحلول الواقعية التي تلامس احتياجات الباحثين عن العمل، وأيضًا إذا توافرت بيئة عمل جاذبة ومحفزة للشباب في القطاع الصناعي- مثلًا- الذي يستطيع أن يستوعب أعدادًا كبيرة من الباحثين شريطة توفر الأمان الوظيفي، والحوافز المناسبة، ومراعاة القيم والظروف الاجتماعية للباحث عن العمل، وعدم معاملته كالعمالة الوافدة نظرًا لاختلاف طبيعة وظروف وقيم العمالة العمانية عن العمالة الوافدة، ودراسة هذه المشكلة دراسة حقيقية من زوايا وأبعاد مختلفة من أجل التوصل إلى نتائج وحلول ممكنة وواقعية، تحقق الرضا لجميع الأطراف المعنية بالتشغيل، ومراعاة مصلحة الدولة من قبل كل الأطراف الحكومية والخاصة والنقابية المسؤولة عن توظيف هؤلاء الشباب الباحثين عن العمل لكون الشباب هم نواة المستقبل التي يعتمد عليها في بناء الوطن ونموه وتطوره.

ينبغي على الجميع أفرادًا وجماعات في مختلف مؤسسات الدولة الحكومية والخاصة، أن ينظر إلى مشكلة الباحثين عن العمل على أنها قضية إنسانية أكثر منها مشكلة اقتصادية أو اجتماعية تُعالج وفق أرقام تزيد وتنخفض حسب الظروف أو الموارد والموازنات المتاحة.

نعم.. هي قضايا متداخلة، إنسانية، اقتصادية، اجتماعية، تؤثر وتتأثر ببعضها، لكنها في المقام الأول قضية إنسانية، ولعل التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- عندما أمر بإطلاق نظام منفعة الأمان الوظيفي، ما يدُل على أن ملف الباحثين عن العمل قضية إنسانية وأولوية لدى الحكومة، كما يعد محور "الإنسان والمجتمع" من المحاور الأساسية في رؤية "عُمان 2040" الذي يستهدف ركيزة تحقيق الرفاه الاجتماعي وتحقيق حياة كريمة، ورفاه مستدام للمواطن في كافة محافظات وولايات السلطنة.

قال تعالى:" وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ".

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة