د. صالح الفهدي
بعد أن تقاعدَ من وظيفته فتحَ مكتبًا هندسيًا، فما كادَ أن ينشَرَ إِعلانهُ حتى كُنتُ أحد المسارعينَ للتعاملِ معه، ثم كانَ لقائي الأوَّل به بعد تقاعدهِ، ودار بيننا حديثٌ بدأته بإِيصالِ السلام والثناءِ عليه من قِبل من يذكُرُ حُسنَ تعامله، ولطفَ أُسلوبهِ، ورفعةَ أخلاقه، وتسهيله قضاء خدمات الناس حين كان يعملُ مهندسًا مدنيًا، وتدرَّج في مناصبَ مختلفةٍ بإحدى الجهات الخدمية.
فقال: لا أظنُّ أنني أخطأُتُ في يومٍ من الأيام على إِنسانٍ صاحبُ حاجةٍ بكلمةٍ إن لم أستطع تسهيل قضاء خدمته، وإنني لأجتهد لمساعدة من أستطيع مساعدته إلاَّ إذا منعتني موانع قانونية لم أستطع تجاوزها"، فعقَّبتُ عليه: ذلك ما يجعلني وغيري اليومَ ممن يشعرون بالإِمتنان لرقيِّك أن نُسارع في التعامل مع مكتبك الهندسي، فقد حصدتَ ما كُنتَ تجنيه طوال فترة خدمتك، وإنكَ اليومَ لتنالُ ما تستحقه مما طيب تعاملك، وحسن أُسلوبك، ورفعة أخلاقك.
سيميِّزُ الناس حصادَ السُّمعةِ الطيبة من السمعةِ السيِّئة، فيقبلون على صاحبِ الأُولى، ويسعدون بالتعاملِ معه، وينفرون من صاحبِ الأُخرى، وذلك فعلٌ بديهي، يقول الشاعر الحطيئة:
مَن يَزرَعِ الخَيرِ يَحصُد ما يُسَرُّ بِهِ // وَزارِعُ الشَرِّ مَنكوسٌ عَلى الراسِ
قُلتُ لأحد السُّفراء: يذكركَ موظفوكَ بحسن المعاملة، ورفعة الأخلاق، وشيمة التواضع، فقال: وما الذي أنتفعُ به غيرِ ذلك من حصاد؟! ولو أنَّ كلَّ صاحبِ وظيفةٍ قد سألَ نفسه السؤال نفسه لأصلحَ نفسه، وقوَّم أخلاقه، وحسَّنَ أُسلوبه، ولحصد السُّمعة الطيبة التي هو حقيقٌ بها، أمَّا البعضُ فقد خرجَ من وظيفتهِ، فيتنفَّسُ موظفوه الأنفاسَ بعده، ويُتبعونه بالغصَّات، والعبارات المعبِّرة عن امتعاضهم من تعاملهِ، وقبحَ أُسلوبه، وسؤ تعاملهِ معهم إِبَّانَ تعامله معهم، يذكر بعض الموظفين عن مسؤولهم قولهم: لقد ذقنا المرارات من رداءة خُلقهِ، ومن دناءةِ أُسلوبه، ومن فضاضةِ عباراته، لا يتواصلُ معنا سائلًا عن حال، وإنَّما تواصلهُ الدائم متذمرًا، ساخطًا، فلمَّا حانَ أوان تقاعده ألحقه موظفوه بنتاجِ حصادهِ، فاستحقَّ منهم ما لا يسرُّه، ولا يسعده فهذا ما جناهُ لنفسه! يقول أبوالعتاهية:
خَيرُ أَيّامِ الفَتى يَومَ نَفَع // وَاصطِناعُ الخَيرِ أَبقى ما صَنَع
وَنَظيرُ المَرءِ في مَعروفِهِ // شافِعٌ مَتَّ إِلَيهِ فَشَفَع
ما يُنالُ الخَيرُ بِالشَرِّ وَلا // يَحصِدُ الزارِعُ إِلّا ما زَرَع
تصوُّر كيفية الحصادِ يجعلُ الإِنسان مُصلحًا لنفسه، مراجعًا لسلوكه، مصححًّا لأخطائه، فهو لا يستغني عن شهادة الناس لأنها تصبُّ في ميزانه، وما أطيبها إن كانتَ شهادة خيرٍ وثناء، هذا ما يبيِّنهُ الحديث الشريف الذي رواهُ البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مُرَّ بجنازة فأُثْنِيَ عليها خيرا، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شرًّا، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، قال عمر: فدى لك أبي وأمّي، مُرّ بجنازة فأثني عليها خير فقلتَ: وجبت وجبت وجبت، ومرّ بجنازة فأثني عليها شرّ فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النّار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض".
لا يلتفتُ كثيرون إلى حصادهم، ولا يفكِّرون فيه، وكأنما ليسوا بحاجةٍ إلى كلمةٍ طيبة تُضاف إلى موازين حسناتهم، استغنوا عنها وقد وجدوا لخدمة الناس، والأمرُ لا يعودُ لكبر وصغر الوظيفة، وإنَّما لكبر وصغر النفوس، فقد يودِّعك الوزير إلى المصعد، ولا يكاد أن ينظرَ إليك موظف صغير وهو جالسٌ في كرسيه!!، يقول إيليا أبوماضي:
اِزرَع طَريقَكَ بِالورودِ وَبِالسَنا // لا يَحصُدُ الإِنسانُ إِن لَم يَزرُعِ
وَاِعمَل لِكَي تَمضي وَتَبقى رِقَّةً // في مَبسَمٍ أَو نَغمَةً في مَسمَعِ
أَو صورَةً مِثلَ الرَبيعِ جَميلَةً // في خاطِرٍ أَو ناظِرٍ مُستَمتِعِ
الحصادُ هو سِجلُّكَ الذي سيرافقُ سيرة حياتك، بقدرِ ما تكونُ عليها أعمالك تكونُ تلك السيرة، فلا ينفعُ ندمٌ لاحق لإثمٍ سابق، وإنَّما هو التوقُّفُ للمراجعة ضامنٌ لتغيير حالك، وإصلاح قناعاتك، فتفكَّر في الحصادِ وأنتَ تزرع فتلك اللحظة الوحيدة التي تستطيع أن تحدِّد فيها نوع حصادك.