د. إسماعيل بن صالح الأغبري
الثبات والاستقرار
من سمات الدبلوماسية العُمانية عدم التقلب في المواقف من الدول، ذلك أنها واقعية في أهدافها منطقية في علاقاتها، تسعى لإقامة علاقات طبيعية حسنة، وليس فوق الطبيعية، فمن سعى إلى علاقات فوق الطبيعية كأنّه ساعٍ إلى أن تكون الدول الأخرى نسخة منه في سياستها ومواقفها الإقليمية والدولية، فإن اتخذت دولة من الدول موقفًا مُغايرًا لموقف تلك الدولة ساءت العلاقات بينهما، وهنا مكمن المشكلات الدبلوماسية العربية.
ومن الشواهد على ثبات السياسة العُمانية: استقرار العلاقات مع دول الخليج، وعدم التقلب رغم التباين بينها في الشؤون اليمنية والسورية والليبية واللبنانية والفلسطينية والمصرية، خاصة بعد اندلاع ما سُمّيَ بـ"الربيع العربي"؟ وبعد إجراء الفلسطينيين انتخابات أسفرت عن فوز حركة حماس في الانتخابات منذ 2006.
واختلفت مواقف دول الخليج في الشأن اللبناني بين مُؤيد لمجموعة "14 آذار" التي كان على رأسها "تيار المستقبل" وحزب "الكتائب والقوات اللبنانية"، وبين فريق "8 آذار" الذي كان على رأسه "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" وحركة "أمل" وحزب "تيار المردة". وقد انعكس ذلك على علاقات دول الخليج بلبنان، بين مدٍ وجزر وتلاسن إعلامي حينًا، وهدوء حينًا آخر، وبين ما يشبه الدفء تارة، وبين تضييق على العمالة اللبنانية أو فرز تلك العمالة حسب انتمائها الحزبي أو قربها التنظيمي، وأحيانًا يتم طرد جزء من تلك العمالة.
تميزت دبلوماسية سلطنة عُمان عن الدول العربية وعن دول الخليج خاصة، ومع ذلك لم تتأثر علاقاتها من جهتها بدول الخليج سلبًا، وفي الوقت ذاته لم تتقلب دبلوماسيتها مع لبنان؛ لأنها تؤمن أن دول الخليج 6 دول لا دولة واحدة، وليس بين هذه الدول اتحاد فدرالي أو كونفدرالي حتى تكون الدبلوماسية متطابقة، وكذلك تُؤمن سلطنة عُمان بأنَّ لبنان دولة مستقلة ذات سيادة، ووصول رئيس أو رئيس وزراء من "14 آذار" أو "8 آذار" هو شأن داخلي سيادي لبناني.
ومنذُ "اتفاق الطائف" المتعلق بلبنان، والدول العربية والخليجية في اضطرابٍ متفاوتٍ في العلاقات مع لبنان، حتى إنه لا يمكن للُبنان أن يختار رئيسًا له أو رئيسًا للوزراء إلا بتوافق إقليمي أو خليجي أو دولي، ورغم التنسيق في ذلك بين هذه الدول، إلّا أن العلاقات لا تشهد تحسنًا؛ بل تنازعا وسوء علاقات مع الرئيس أو رئيس الوزراء والحكومة اللبنانية، ويتمثل ذلك الاضطراب في تجميد العلاقات مع لبنان ووقف السياحة نحوها؛ بل يصل الأمر إلى وقف المساعدات لها ورفض استقبال الرئيس أو رئيس الوزراء اللبناني إن كان ينتمي لهذا الحزب أو ذاك. وقد يكون هذا الموقف وليد تلك السياسة والدبلوماسية العربية التي اعتاد عليها الشارع العربي، وقد يكون انسجامًا مع الموقف الأمريكي، والفرنسي خاصة.
أين السياسة العُمانية من هذه المواقف العربية المضطربة من لبنان؟ سلطنة عُمان واقعيةٌ في دبلوماسيتها، سياسيةٌ في إدارة الشأن الإقليمي والدولي، وسياستها تدل على أنها ليست وصيّةً على لبنان ولا وكيلة عليه، ولا مشرفة على شؤونه، حتى تضطرب علاقاتها معه كلما اختار اللبنانيون رئيسًا لهم أو رئيسًا لحكومتهم، وكان مقربًا من "14 آذار" أو "8 آذار" أو ما بقي منهما. إنه شأن لبناني لا يمت بصلة إلى الشأن العُماني؛ لذلك فعلاقاتها مع لبنان طبيعية وحسنة على أي حال، ويمكنها استقبال رئيس الحكومة أو الرئيس اللبناني بغض النظر عن انتمائه الحزبي.
ومن الشواهد الأخرى على ثبات السياسة العُمانية وواقعية دبلوماسيتها عدم تأثر علاقاتها سلبًا بأي من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أيام ما وقع بين هذه الدول من توتر وتراشق إعلامي؛ فالدبلوماسية العُمانية حافظت على همزات الوصل مع تلك الدول، ولم ينشأ بينها وبين دولة أخرى من دول الخليج جدار أو سد مانع، وإنمّا جسر تمده عُمان للجميع ومع الجميع.
دول الخليج ست دول، ولكلٍ منها طريقة في إدارة ملفات المنطقة، وفي نسج علاقات إقليمية ودولية، ولها مناهجها في آليات التعامل مع الأحداث التي شهدتها كل من مصر وسوريا وليبيا وتونس؛ لذلك فهي تتفهم سياسات تلك الدول، ومع ذلك فالمأمول تفهُّم غيرها لسياساتها ومنهجها الدبلوماسي، خاصة وأن مجريات الأمور بين دول مجلس التعاون آلت فيما بعد إلى ما كانت تدعو إليه الدبلوماسية العُمانية، من ضرورة عودة السفراء وإنهاء القطيعة ووقف تبادل الاتهامات، والتدرج في وقف التلاسن الإعلامي، وتبديد لغة التخوين تمامًا، مثلما أثبتت الوقائع صواب الدبلوماسية العُمانية في الموقف الإيجابي لها من مصر بعد توقيع الأخيرة اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وقطع الدول العربية علاقاتها مع مصر، ثم صيرورتها إلى ما سارت عليه السياسة العُمانية ببقاء العلاقات الدبلوماسية مع مصر.
ومن الشواهد على استقرار وثبات المنهج السياسي العُماني الموقف من الأحداث التي شهدتها اليمن أيام اندلاع لسان ما سُمّيَ بـ"الربيع العربي" ثم ما شهدته اليمن من انقسام اليمنيين فيما بينهم واندلاع الحرب، فإن سلطنة عُمان تجنَّبت مستنقعات اليمن ومحارقه، وطالما دعت إلى تجنب الانغماس في تلك الأحداث، وأن أفضل طريق لعموم السلام في اليمن هو ترك الاصطفاف أو التأجيج بينهم. وقد ترجمت عُمان ذلك عمليًا باستضافتها أطراف النزاع مرارًا على أرضها من أجل حل لما وقع فيه اليمن، ويبدو أن المنهج الذي تفردت به سلطنة عُمان في اليمن سيتم الأخذ به في قادم الشهور. وهكذا تثبت الأحداث والوقائع بأن السياسة العُمانية واقعية في التعامل مع الأحداث، ومنهجها ثابت لا يتغير بانفعالات ومزاجية، ذلك أن السياسة والدبلوماسية إذا غلبت عليها الانفعالات خرجت من السياسة إلى نقيضها.
ومن الشواهد الأخرى على ثبات الدبلوماسية العُمانية، عدم تقلب علاقاتها مع إيران أيام الشاه المحسوب على الرأسمالية، أو أيام اندلاع الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني عام 1979م، أو حالة تصنيف خلفاء الإمام الخميني إلى محافظين وإصلاحيين؛ فالعلاقات طبيعية حسنة أيام الرئيس محمود أحمدي نجاد المحسوب على المحافظين، وكذلك العلاقات ثابتة وطبيعية أيام الرئيس حسن روحاني المحسوب على الإصلاحيين، وحاليًا مع الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي، وقد تلقى جلالة السلطان هيثم بن طارق سلطان عُمان دعوة رسمية لزيارة إيران، وقد استقبلت سلطنة عُمان من قبل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي استقبالًا رسميًا يليق بالعلاقات الطبيعية الحسنة بين البلدين.
وطالما غمز كُتاب عرب وخليجيون وقنوات فضائية هذه العلاقات بين عُمان وإيران، وكأنَّه يجب على السياسة العُمانية أن تنساق مع سياسات غيرها، وكأن هناك اتحادًا فدراليًا أو كونفدراليًا بين دول الخليج وسائر الدول العربية، علمًا بأن واقعية الدبلوماسية العُمانية أثبتت جدواها على مدى ما يزيد عن 50 عامًا؛ بل غالبًا ما تنفعل سياسات غيرها وتضطرب ثم تهدأ فتعود إلى ذات مضمون السياسة العُمانية.
دول الخليج بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015 باركت الاتفاق، وأصدرت بيانات ترحيب به على اعتبار أنه سينهي الاضطراب في الخليج، وسيساعد على تلطيف الأجواء بين إيران والخليج، وسيضمن تدفق نفط دول الخليج عبر مضيق هرمز.
وبعد إلغاء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب (الجمهوري اليميني المحافظ) الاتفاق وتوتر علاقاته مع إيران عادت الدول العربية إلى توتر علاقاتها مع إيران، ثم عندما تولى الإدارة الأمريكية الرئيس الديمقراطي جو بايدن، تعهد بالعودة للاتفاق النووي، لكن الدول العربية الخليجية خشيت حدوث تقارب إيراني أمريكي، فمالت إلى تخفيف اللهجة تجاه إيران، واعتبرتها جارة من الضرورة التفاهم معها.
وذلك ما تدعو إليه السياسة العُمانية، غير أنها لا تتقلب؛ بل ثابتة تقاربت أمريكا مع إيران أو تباعدت.
وتشير الدلائل اليوم إلى أن دول الخليج كافةً تبذل جهودًا للتقارب مع إيران، فكيف يكون هذا الأمر حرامًا على السياسة العُمانية، حلالًا على غيرها؟! علمًا بأن الدول التي سحبت سفراءها من إيران أعادتهم إليها، كما إن دولًا لها تبادلات تجارية واقتصادية بعشرات المليارات من الدولارات مع إيران.
إنَّ سلطنة عُمان غير ملزمة بسياسات غيرها، ولا يلمز إعلامها دبلوماسيات الدول الأخرى.
ولعل ما تطلبه الدبلوماسية العُمانية هو تفهم غيرها من الدبلوماسيات لمنهجها خاصة وأنه قد ثبت أن الجميع فيما بعد يصير إليه بدليل تقرب الدول العربية والخليجية حاليا من سوريا وتبادل الزيارات مع مصر وتهدئة الوضع في اليمن، وهو ما عليه عُمان لم يتبدل.
إنَّ هذا المنهج يعطي المصداقية لهذه الدولة كما يساعد على الاستثمار فيها ويطمئن أصحاب رؤوس الأموال على أموالهم، يبقى أنه يجب استثمار هذا النوع من الدبلوماسية اقتصاديًا، ولا يكفي البقاء عليه دون تحقيق مردود عملي اقتصادي منه؛ فالإشادة الخارجية بالمنهج أمر حسن، لكن الأحسن ترجمة ذلك عمليًا عن طريق حراك الدولة واستثمار المنهج، فالمردود الاقتصادي قليل جدًا حتى الآن.