كذب المنجمون ولو صدقوا!

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

"كذب المنجمون ولو صدقوا".. عبارة نسمعها على الدوام يرددها الكثير من الناس في مناسبات مختلفة، بهدف تكذيب ما يروج له المنجمون الذين يزعمون أنهم على إطلاع على علم الغيب، وذلك من خلال اعتماد هؤلاء على الشياطين أو ما يُعرف بالقرين، وأحيانًا كثيرة مجرد تكهنات وأكاذيب من أجل الشهرة والمال. وتطالعنا وسائل الإعلام في مطلع كل عام بتوقعات صادمة ومُخيفة تجعل الذين يتابعون تلك الشائعات المزعجة يشعرون بأنهم في عالم خاص بعيدا عن الواقع والحقيقة.

صحيحٌ أن هناك بعضا من توقعات المنجمين قد تحدث بالصدفة، وتتحقق على أرض الواقع لكونهم يعتمدون على مؤشرات وتوقعات ترتبط بالأحداث والمعطيات الاجتماعية والتاريخية، فهناك من يُؤمن بمقولة "التاريخ يُعيد نفسه"، وذلك إذا توفرت ظروف معينة، فذلك عبارة عن تكرار الأحداث المتشابهة في الزمان والمكان عبر التاريخ البشري، كما هو الحال قيام وسقوط الدول وأنظمة الحكم التي ترتبط في الأساس بالحكام والقادة وطبيعة المجتمعات التي يتولون قيادتها وحكمها ومدى قدرة الشعوب على التغير نحو الأفضل كما حصل ما يعرف بـ"الربيع العربي" الذي أحدث زلزالًا غير مسبوق في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج؛ إذ اقتلع بعض الحكومات العربية دون مقدمات، وكان صادمًا لجميع الساسة والمتنفذين.

ومن المؤسف حقًا أن يكون بين هؤلاء المنجمين؛ رجال أعمال ناجحين من الذين جمعوا ثروات طائلة بجهودهم وإدارتهم الناجحة في عالم الأعمال التجارية؛ أمثال الملياردير الأمريكي بيل جيتس، وكذلك رجل الأعمال العربي طلال أبوغزالة، والأخير تنبأ بسقوط الحكومات وتوقف سلسلة الإمدادات في السنة الجديدة 2023! فهكذا تحول هؤلاء من رؤساء تنفيذيين لشركاتهم العملاقة إلى محللين اقتصاديين لأحوال الأسواق المالية العالمية، وكذلك إلى منجمين وخبراء إستراتيجيين  للحروب النووية والجرثومية التي يتمنون وقوعها لتحقيق وكسب ثقة متابعيهم في وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، ولعل ما نشره بيل جيتس 2021 عن توقعاته باستمرار الأمراض الفتاكة مثل كورونا (كوفيد 19) وأخواتها من الفيروسات المتحورة ودعوته المتكررة إلى تقليل عدد سكان العالم خير دليل على ذلك.

لا شك أنَّ استقراء المستقبل المتعلق بأوضاع المجتمعات وأحوال الشعوب ليس بالأمر السهل، ويحتاج إلى دراسات متعمقة على أيدي خبرات أكاديمية مُحنّكة لها سجلها المشهود في ميدان البحث العلمي الرصين الذي يعتمد بالدرجة الأولى على المعايير والقواعد العلمية الصحيحة والمستجدات البحثية في أروقة الجامعات ومراكز البحوث المشهود لها بالخبرة والنجاح في الرصد والتنبؤ بالمستقبل، وقبل ذلك كله ما سبق نشره في الدوريات العلمية المحكمة من قبل الباحثين والخبراء في هذا الميدان، ومدى قدرة تلك البحوث المنشورة على ملامسة الواقع والمستقبل.

وعلى الرغم من وجود مراكز عالمية ذات سمعة رفيعة فضلا عن الجامعات المرموقة مثل هارفارد وكمبريدج وأكسفورد، والتي تحتوى على أفواج من طلبة العلم ونخب أكاديمية ذات سمعة رفيعة، إلّا أن معظم الأزمات الاقتصادية العالمية (مثل "أزمة 2008" وكذلك الأزمات الاقتصادية الأخيرة التي صاحبت جائحة كورونا ومن قبل ذلك بعدة سنوات) ظهرت فجأة وبدون تحذير يذكر من المؤسسات البحثية المنوط بها دراسة واستقراء مستقبل الاقتصاد العالمي.

إنَّ فشل بيوت الخبرة ذات السمعة الأكاديمية في كشف النقاب عما يواجه البشرية من تحديات سريعة وكارثية- وفي مقدمتها ظهور جائحة كورونا التي حصدت أرواح ملايين البشر حول العالم خلال العامين الماضيين، وكذلك الأزمات المتتالية المتعلقة بالحروب والمجاعات وتغير المناخي- قد ألقت بظلالها على حقيقة الفشل الذريع للدراسات المستقبلية لسلوك البشر؛ وأنظمة الحكم الانتهازية في هذا العالم المترامي الأطراف؛ فالقضايا العالمية يتم تجاهلها وعند دراستها تظل في عالم السرية والكتمان للجهات التي تمول تلك البحوث؛ مما يفتح الباب على مصراعيه للمنجمين والعرافين والدجالين والمشعوذين لنشر تفاهاتهم التي تفتقد إلى المعايير العلمية والمصداقية؛ بل وحتى غير المختصين من التجار والانتهازيين من الذين أتاحت لهم المنابر الرقمية الحديث بسهولة ويسر ودون رقيب وحسيب، للحديث عن علم الغيب وما ينتظر البشرية من أيام صعبة من وجهة نظهرهم!

يجب ألا نترك الساحة لمروجي الشائعات والأكاذيب؛ فالمراكز البحثية المتخصصة التي تدرس القضايا حسب طلب الحكومات أو الجهات الممولة لها في الغرب، تقوم باحتكارها والسيطرة عليها ومنعها من النشر لكي لا يستفيد منها الآخرون، فهي لا تُنشر كمعرفة علمية ذات طابع إنساني. ويجب أن نعلم هنا أن 3 مراكز دولية تُصنف باعتبارها الأكثر تأثيرًا في صناعة القرار العالمي، ويأتي مركز "بروكنجز" الأمريكي الأكثر تأثيرًا في السياسات الاقتصادية والأمنية والإعلامية في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها. بينما يأتي معهد "تشاتام هاوس" البريطاني والمعروف رسميًا باسم "المعهد الملكي للشؤون الدولية"؛ ضمن هذه المراكز ذات السمعة الرفيعة؛ حيث يدرس ويضع حلولا واستراتيجيات لمعظم المعضلات العالمية. أما المركز الثالث من حيث التأثير فهو "بروجل" الذي يتخذ من بلجيكا مقرًا له، ويهتم بتحليل التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا والعالم. وتُخصص معظم الدول المتقدمة 3% من دخلها القومي كأقل تقدير لموازنة البحوث العلمية؛ بل إنَّ بعض الدول تخصص ميزانيات أكبر من ذلك؛ قد تصل إلى 4.8% مثل دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك اليابان التي وصلت مؤخرا إلى 3.4%.

وفي الختام.. لقد أصبح إنشاء مركزٍ لصنع القرار واستقراء المستقبل على المستوى القضايا الوطنية والإقليمية من الضروريات، وذلك لقطع الطريق على تنبؤات المُنجمين، التي تعتمد على توقعات تفتقد للصدق والمنهج العلمي الصحيح؛ فتخصيص موازنات وطنية للبحث العلمي لاستشراف المستقبل، وقبل ذلك كله اختيار كوادر مؤهلة تأهيلا عاليا، يعد من أهم مفاتيح النجاح لكسب الرهان واحتلال موقع متقدم بين الأمم المتقدمة.. فالبحث العلمي الدقيق يعمل على الارتقاء بالمجتمعات ويقلل التكاليف المالية والجهد المطلوب لإنجاز المشاريع الواعدة ويختصر الزمن.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري