سعيدة البرعمية
اتجه أحدهم للمنصة ليُلقي كلمة للاحتفاء باللغة العربية في يومها المجمع عليه، في قاعة كبيرة للمؤتمرات، أمام زمرة من الناس، تفحص مكبّر الصوت وهو يقول: Does it work?
حسناً،، نبدأ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
أهلا ومرحبا بكم ياعرب، أسعدني حضوركم أيّها المنشقون، Sorry، أقصد الأشقاء، المعذرة لساني يخذلني دائماً في مثل هذه المناسبات.
لا شك أنّ العربية أضناها التعدّد وكثرة المصاهرات، فبعد أن كانت الأولى إلاّ أنّ الثانية والثالثة وربما الرابعة حظين لدينا بمنازل أرفع منها؛ بالرغم من الأسبقية والهوية التي تربطنا بها.
نحن أيها السّيدات والسّادة، نؤكد دائماً في كلّ محافل العربية أننا انزلقنا كثيرا عن اللغة الأم؛ لكنّي أختلف مع وجهة النظر هذه، فأنا لا أرى أننا كنَّا عليها من الأساس حتى ننزلق، نحن وجدنا من هم قلبنا منزلقين عنها، فأنزلقنا عنهم، هذا كلّ ما في الأمر.
فلنكن واضحين؛ فقد اجتمعنا في مثل هذا اليوم من العام المنصرم في هذا المكان؛ وأكثرنا الطعن في أنفسنا لومًا وحسرة، دون أن نتحدث بها خارج نطاق أوراق العمل؛ بل كانت ألسنتنا تنحرف عنها عودة للهجة أو إلى لغاتنا الأم التي سأذكر منها على سبيل المثال الشحرية (الجبّالية) والمهرية والسواحلية والبلوشية واللواتية والحرسوسية وغيرها، ونتشدّق بالإنجليزبة كلما لزم الأمر، ولا أعتقد أنّ أحدا منّا قام بتطبيق بعض الاقتراحات التي أوردها الدكتور فصيح في ورقة عمله ذلك اليوم، كان اقتراحه الأول: " الحديث يوميا مع العائلة بالفصحى لمدة نصف ساعة".
هل طبق أحدكم هذا الاقتراح؟ أنا اعترف أمامكم أنني لم أفعل، حتى من باب خوض التجربة، ولا أظن هناك من جربه.
لا أدري لماذا لم نقتنع أو نتجاهل أننا رهينة متغيرات العصر،جميعا نعرف، أنه ثمّة مفردات أعجمية دخلت إلى العربية في عصور سابقة؛ بسبب الفتوحات الإسلامية وتعايش الشعوب وتبادل الأنشطة الثقافية والتجارية فيما بينها، ولا أرى ما نحن فيه الآن من انحراف عن اللغة إلاّ بتوغل الأسباب نفسها وتطورها بتوسع القاعدة لديها، لكل عصر عاهاته ومؤثراته ومتغيراته؛ ها نحن ما زلنا نكتب بالفصحى؛ كونها اللغة الرسمية للدولة وليس لأنها اللغة الأم، ولو لم تكن اللغة الرسمية للدولة لما كان هذا الاحتفاء، العام وكلّ عام.
إننا نكثر العويل على الكثير من الأمور في ندوات كهذه؛ كي نقنع من حولنا بالانتماء لتلك العروبة المنسلخة، والعربية المغتربة في بلادنا، بينما الحقيقة أنه إذا تحدث أحدنا بها تتجه إليه الأنظار وتتفحصه، كأنه أتى من كوكب آخر! نحن يا أشقاء نكثر الضجيج دون جدوى، أصبحنا كثيرا نحبّ الاحتفاء وإقامة الفعاليات دون البحث في مدى تأثيرها واقتناع المتلقي بها، بالضبط كما يحدث الآن في هذا المكان؛ فلدينا جميعا أوراق عمل أعدّت بالعربية الفصحى، تحتفي وترثي، وتنتحب وترفع سيوف اللّوم عاليا معلنة الثأر لها، ولكن لا تلبث إلى أنّ تتوجه نحو كيكة الاحتفاء فتقطعها وترجع سالمة في أغمدها، فنصفق لها ببلاهة ونشرب القهوة ونمدح مذاق الحلوى.
ماذا يحدث؟
عادت سيوف اللّوم حيث كانت؛ فقد قتلتها اللذة!
ننعتها بالأم وننسى أننا لم نبرها يوما، العقوق يتلبسنا ويسلبنا برّها، دعونا نتحدث بشفافية أكثر، هي في الحقيقة لم تكن أمٌّ لنا يوما؛ فأمومتها لأجداد أجداد أجدادنا لا يعني أنها أمّا لنا، المرجح أننا أحفاد اللغة وأبناء اللهجة، وعندما أرادوا لنا التعليم أعطونا كتبا ممنهجة بلغة أجداد أجداد الأجداد، وباللغة الإنجليزية التي أخبرونا بأنها بلغة العصر.
أخذنا نقرأ ونكتب بهما ونعود للهجة ونتلذذ بمفردات لغة العصر…. أليس كذلك! لا أظن هناك من ينكر.
أنا الذي أقف أمامكم أضعت اللغة مرتان، الأولى: العربية الفصيحة، والثانية لغتي الأم (الشحرية) بسبب اتجاهي للهجة في مماراساتي اليومية مع أبنائي ومع زملاء الدراسة والعمل، وعندما أكتب مقالا أو محضر اجتماع، أستجمع المعجم الفصيح وأكتب بالفصحى، وكلما خرجت للتسوق أجد لساني يترنح في سَكَرٍ بالمفردات الإنجليزية.
إنّنا بلا شك ندرك حجم انشقاقنا من وعن اللغات الأم؛ لكنّنا نحتفي بها لنسجل في رصيد النكران بعض الرضا والكثير المتاهة والقليل من الحقيقة.
ختم كلامه بقوله: Sorry, but it’s the fact.