باختصار

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

هناك أنواعٌ كثيرةٌ من الصبر ولعل أهمها نوعان وهما صبر الضعيف المُكره والذي لا يجد له المبتلى خيارًا سوى الاحتساب كصبر المريض على مرضه والفقير على فقره مع انقطاع الحيلة حيث الغريم مُبهمٌ غير مشخصٍ، والآخر هو صبر القوي المبني على الإرادة الشخصية مع وجود غريمٍ معروف بالإمكان أن تطالهُ يد حيلة الصابر ولكنه لا يفعل لاعتبارات شخصية أو اجتماعية كهضم الحقوق أو تعمد الإهانة بالقول أو الفعل.

لكن ما نحن بصدده في معرض الحديث اللاحق هو الصبر الخفي الذي يدخل تقريبًا في كل فعلٍ وعملٍ وتعضده أذرع داعمة كرغبة النجاح والتحلي بروح الأمل، واللذين يتانجزان فطريًا مع المحبطات الطارئة كمداخيل الكسل والشعور بالملل وتهميش دور المثابرة من خلال الاستعجال على تحقيق المراد بجهدٍ متدنٍ ووقتٍ أقل.

قد يختلط الصبر والمثابرة على كثير منَّا والحقيقة أنَّ الأول جزءٌ من الثاني، فالصبر هنا هو أحد العناصر الرئيسة التي تدخل ضمن مفهوم المثابرة وكذلك الإصرار على تحقيق هدفٍ ما ولن يتحقق الهدف المنشود ما لم يسند كل تلك العناصر عزيمة صلبة من الإخلاص والتفاني، ولذلك نجد أن الاستمرارية هي الكلمة المفتاح، وهذا ما يفتقده الكثير وإن تحلوا بالصبر بالعزيمة والإصرار، فتسيطر عوامل الإحباط النفسي والذهني وتنخر في زمن المثابرة حتى تُضعفه وتقلصه، ثم تدخل أفكار الاختصارات والطرق القصيرة لإنجاز الهدف على حساب الجودة والنوعية بدون تحقيق النتيجة المرجوة في ظل وجود عوائقٍ من عادات وممارسات سابقة لم تترك أو تتغير، وما بين كسب العادة وتركها فترة زمنية غير قصيرة لترويض تمرد النفس على ما استحسنته من ملذات واعتادت عليه من تفاهات وبسائط، كما نفعل في شهر رمضان؛ حيث إن الوازع الإيماني يُملي علينا ترك بعض العادات وتغييرها مع شيء من الإصرار والصبر ورجاء الثواب والقبول ولكنها تعود بالتدريج بعد نهاية الشهر بسبب غياب عامل الاستمرار والذي يتأثر بالظروف المتغيرة من حوله.

فمثلًا، شغف إنقاص الوزن الذي يصيب الكثير من أفراد المجتمع وما يخالطه من أحلامٍ جميلةٍ وخيالاتٍ رائعة في الشكل والهيئة ونوعية الملابس بعد تحقيق هدف الوزن المثالي- وقلما يتحقق- لتبدأ رحلة الألف ميل الطويلة مع العزم والجزم بتغيير نوعية الطعام والشراب وتقنين السلوك اليومي المعتاد وممارسة الرياضة، والتي تشق على معظم الناس، وما تلبث تلك المسيرة أن تقصر تدريجيًا حتى تتسلل أفكار السأم والملل، ويكبح لجام العادات القديمة جماح المدخلات الجديدة، فيلوح طريق مختصر على جانب المسار الطويل وتلمع فكرة العملية الجراحية لتكميم المعدة لتريح من جبرية الاستمرار والصبر على برنامج العناء والشقاء.

وكذلك يحدث مع فكرة إنشاء مشروع تجاري صغير؛ حيث البداية البسيطة والتي تتطلب صبرًا كبيرًا مع المثابرة والإصرار فيتحطم الحلم بعيد المنال بعد وقتٍ قصيرٍ من سيطرة الكسب الكبير والسريع لعدم القدرة على المواصلة حيث تغيير العادات والسلوكيات القديمة كان من أهم عوامل الفشل ومعوقات النجاح.

على المستوى التاريخي، هناك شخصيات جدليةٍ حققت نجاحًا كبيرًا لإيمانها العميق بفكرتها وثباتها على مبدأها؛ حيث قال بول جوبلز وزير الدعاية الألماني الذي لم يكن مقتنعًا بفكر النازية: إن هذا الشخص- ويقصد هتلر- خطيرٌ جدًا ويجب أن أساعده لأنه مخلص لعقيدته وسينجح. ونجد نفس المبدأ الذي سار عليه الحسن بن الصباح مؤسس فرقة الحشاشين الرهيبة وتحليه بالصبر والتفاني والتخفف من الملذات إلى أن أقام تنظيمًا أرهب به الملوك والممالك. وكذلك محمد بن تومرت والذي وصل به الزهد والتقلل إلى أكل الخبز القراف بالزيت طوال حياته، إلا أنه أفلح في إنشاء دولة الموحدين في المغرب العربي على أنقاض دولة المُرابطين.

نعم إنها شخصيات لا ينكر عليها الاعتلال العقلي ولكنها عملت على مبادئ المثابرة والاستمرار وأخضعت العقول السليمة للامتثال، كما أن هناك شخصيات أخرى أصرت على مواقفها ومبادئها ولعبت دورًا تاريخيًا في تغيير أنظمة وثقافات دول ومجتمعات بأسرها وهي معروفة لا يتسع المقام لذكرها.

يعزى نجاح الكثير من الأفراد في مجتمعاتٍ قد تكون شديدة الفقر والبؤس وبيئاتٍ غير مشجعة إلى رسم خارطة طريق ذهنية تؤدي مباشرةً للهدف وإن كان بعيدًا ويشوبه شيء من المُحال غير مبالٍ بعظم الصعوبات في وجهه وتعدد العقبات في طريقه حيث إن المثابر لا يهتم كثيرًا بما قد يحكم عليه الناسُ من حوله بما أنه لن يتسبب في ضررٍ أو أذى لغيره، ولا يُشغل تفكيره كثيرًا ببعض النظرات السلبية المحطمة لمسيرة نجاحه ولا وقت لديه لسرد المبررات والمسوغات فهو يعلم يقينًا أن نتائجه مستقبلًا ستتكفل بالشرح اللازم والتوضيح الكافي عمليًا.

ولنقس على ذلك المريض الذي يترك دواءه بعد عدة أيامٍ بسبب الملل أو استعجال الشفاء مع أنَّ نتيجة قراره ستعود بالسلب على صحته، والطالب الذي بدأ عامه الدراسي بالحماس والمعاهدة الذاتية ببذل أقصى جهده لتحقيق نتائج متقدمة حتى تخور قواه بعد عدة أيامٍ ليعود إلى سابق عهده ويتغاضى عن النتيجة التي ستنعكس على مستقبله فيلقي باللوم على نوعية وأسلوب التدريس والتذمر من المعلمين والمؤسسة والمنهج الدراسي كذريعةٍ يبرر بها عدم قدرته على تغيير نفسه لأكثر من أسبوع؛ والموظف المحبَط في عمله لأسباب تتعلق بالسلوك وهُزال الإنجاز والذي يقع عليه الظلم دائمًا دون غيره فيبث شحنات أعذاره على شكل عدم اقتناعه بقرارات إدارته مع وجود الناجحين من حوله في نفس البيئة فيشع في الأرجاء طاقة سلبية تكفي لإنارة المبنى.

يبدو أننا أغرقنا قليلًا في عشق الاختصارات، وما نفتقر له فعليًا هو عنصر الاستمرارية وإنهاء مابدأناه بالثبات على مستوى شُعلة الحماس الذي سبق الانطلاقه ثم المواصلة بالحفاظ على وتيرة الاتقاد نفسها إلى النهاية، ونبذ تعليق التخاذل على المحبطات الطبيعية والمخلقة والتي تدفع بنا إلى جلب الأعذار وتحويرها في كوميديا سوداء حتى تتناسب مع التقاعس وصولًا إلى الانسحاب الممنهج دون الاعتراف بالفشل.