د. محمد بن عوض المشيخي **
الأمان الوظيفي ركن أساسي لا غنى عنه لمستقبل الأجيال في هذا الوطن، ولا يمكن أن نتوقع حياة كريمة للإنسان بدون وظيفة دائمة يركن إليها المواطن من تقلبات الزمن؛ لتوفير مصدر رزق دائم له ولأسرته؛ فخريج الجامعة طموحاته مشروعة في الوظيفة غير المؤقتة، بعد أن أمضى سنوات طويلة من عمره في سلك التعليم العام ثم التعليم الجامعي.
من هنا يأتي الدور المحوري للجهات المختصة بالتخطيط والتوظيف بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، من جانب وإيجاد فرص عمل حقيقية في مختلف قطاعات الإنتاج بعيدا عن البطالة المقنعة التي يفترض أن تصبح من الماضي ونحن نعيش الألفية الثالثة بما تحمله من معرفة ساطعة تنور طريق كل مجتهد للارتقاء بالوطن من صناع القرار؛ وكذلك بعد مرور أكثر من خمسة عقود من عمر النهضة العمانية المتجددة؛ فالتعليم من أجل سوق العمل أصبح من الضروريات التي يجب أن يتم تأطيرها من خلال وضع سياسات جديدة بين القائمين على وضع المناهج التعليمية والمشرفين على سوق العمل في السلطنة.
وعلى الرغم من وجود عشرات الآلاف من الباحثين عن عمل في بلادنا، إلا أن هناك أيضًا وظائف كثيرة تتولّد تزيد بأضعاف عن عدد الباحثين عن عمل بشكل عام، على وجه الخصوص في القطاعات الطبية والتعليمية والإدارة العليا في الشركات العائلية في القطاع الخاص، فإذا ذهبنا إلى القطاع الصحي مثلا، نجد أن هناك شواغر كثيرة تشغل من قبل الوافدين كالأطباء والممرضين والكادر الفني، أما قطاع التعليم العالي؛ فمعظم الذين يعملون في السلك الأكاديمي في الجامعات الحكومية والخاصة من الأجانب في غياب شبه كامل لوجود خطة أو سياسة لإحلال الكوادر الوطنية وإعدادها وتأهيلها في هذا القطاع الهام. كما أن التعليم العام يعاني من نقص في الكادر التعليمي لعدم وجود رؤية مستقبلية لفتح المجال للراغبين بالانخراط في هذا القطاع. ونتذكر جميعا إغلاق العديد من الكليات التابعة لوزارة التعليم العالي قبل أكثر من عقد من الزمن، مما ترتب على ذلك نقص في المدرسين، واستبعاد معظم الذين درسوا خارج السلطنة بدعوى عدم تجاوزهم الاختبارات التي وضعتها الوزارة خاصة في مجالي اللغة الإنجليزية والكيمياء، على الرغم من إمكانية تأهيل هؤلاء الذين درسوا على حسابهم في معهد خاص لمدة 6 أشهر أو إسناد هذه المهمة لكلية التربية في جامعة السلطان قابوس، كما هو الحال في تخصصات أخرى الذين يتاهلون قبل انخراطهم بالعمل في كثير من دول العالم.
لقد طالعتنا وسائل التواصل الاجتماعي خلال هذه الأيام بقيام إحدى شركات القطاع الخاص التي تعمل في حقول النفط بتسريح جميع العمانيين الذين يعملون فيها وذلك اعتبارا من نهاية هذا الشهر ديسمبر، إذ كشف المغردون الذين تضامنوا مع المسرحين عبر وسم (تويتر) أن عدد هؤلاء المسرحين قد بلغ 179 شخصا، وبالطبع هذا التسريح لم يكن الأول ولن يكون الأخير؛ بل النزيف مستمر ومنذ سنوات طويلة لعدم وجود تشريعات يركن إليها الموظف العماني الذي خذلته كل الجهات التي لها علاقة بهذا الموضوع وهو يعيش تحت وطأة ظروف معيشية صعبة، ربما ينتظر ساعة طرده من المؤسسة التي يعمل فيها دون مبرر أو تقصير. لقد كانت هناك مبررات أيام جائحة كورونا لقيام القطاع الخاص بما يعرف بـ"التسريح الممنهج"، لكن اليوم وبعد أن عادت الأوضاع الاقتصادية إلى حالها وارتفاع أسعار النفط وانتعاش الأسواق العالمية فلا يوجد أي مبرر للتسريح إلا في حالتين؛ أولًا: إغلاق الشركة لعدم وجود عمل؛ ثانيًا: مغادرة الشركة البلاد، وذلك لانتهاء عقودها وعملها بشكل نهائي في السلطنة وبالطبع هذا عذر مقبول.
الكل يثمن الجهود الصادقة التي تقوم بها وزارة العمل في سبيل إيجاد فرص عمل للمواطنين في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة، وبالفعل هناك نقلة نوعية في أعداد الذين انخرطوا في العمل أو في انتظار الالتحاق بالعمل بعد إنهاء إجراءات التوظيف ولكن بمجرد استلام المرشح العمل يواجه كابوس المدة التي حددت بعامين من خلال مبادرة "ساهم" التي عمرها قصير وفيها الكثير من الشروط التي قد يفقد الملتحق وظيفته إذ أخل بها والتي تختلف عن قانون الخدمة المدنية المعمول به حاليا خاصة في الإجازات المرضية التي تتجاوز شهرا وما فوق. كما أن ما يعرف بمبادرة (مليون ساعة تشغيلية) والتي تشتمل على 1254 ساعة فقط للذين يحملون الشهادة الجامعية قد ألقت بظلالها على المرشحين لهذا العمل الجزئي الذي مدته قصيرة ولا تتوافق مع طموح الملتحق بالعمل.
يبدو لي أن هذه الفرص وضعتها وزارة العمل في منتصف عام 2021 في أجواء كورونا والأزمة الاقتصادية آنذاك، لكن الوضع قد تغير بفضل الله؛ حيث سجلت ميزانية الدولة فائضًا يقدر بنحو 1.2 مليار ريال، حسب بيانات وزارة المالية.
السؤال المطروح: هل مصير الذين يعملون حاليا بالعقود الحكومية والعمل الجزئي (ساعات) هو التسريح بنهاية العقد؟
إذا كان بالفعل سوف يرجع هؤلاء إلى بيتوهم في نهاية عقودهم الحكومية، فلماذا نلوم القطاع الخاص على تسريحه للعمانيين، فالأمر في اعتقادي وجهان لعملة واحدة.
وفي الختام.. لقد أثلجت صدورنا جميعًا التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بإلغاء كلمة "مؤقتة" من عقود العمل قبل أيام قليلة، ونتطلع إلى مكرمة سلطانية بتثبيت أصحاب العقود في الوزارات والهيئات الحكومية والتي هي جميعها بالفعل بحاجة إلى هذه الكوادر الوطنية، فعمان تبنى بسواعد أبنائها.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري