ما بعد المونديال في قطر

 

د. عبدالله باحجاج

من يعتقد أنَّ ما تتعرض له قطر من حملات إعلامية وسياسية بسبب موقفها من المثليين، هو من قبيل الحق المجرد والخالص لذاته، كونها- أي المثلية- خيار مجموعة من البشر اختاروا أن يكونوا ضد الفطرة البشرية السليمة، فهو واهمٌ، ومن يعتقد كذلك أنَّ موجة المثلية ستختفي بعد نهاية كأس العالم في الدوحة، فهو أيضًا واهم، ومن يعتقد من الدول أن شأنه الداخلي مُحصّن من الاختراقات الفكرية والأيديولوجية كالمثلية، هو أيضًا واهم.

والواهمون لا يمكن أن يحافظوا على استقرار بلدانهم في موجة التغريب الجديدة القديمة، وسيرمون بها في أتون صراعات داخلية، وسيتسببون في ولادة تيارات مُتطرفة كرد فعل على المساس بالفطرة السوية البشرية، فكيف لو تدخل العامل الديني في ردود فعل الفرد والجماعة؟ وهذا الأخير لا يمكن استبعاده؛ بل إنه في الأفق الاستشرافية.

القضية هنا، لا يمكن أن ننظر لها من منظور حق مجموعة العبث بالفطرة السليمة، أو من حقها مخالفة الأغلبية، وإنما هي قضية دولية ذات طابع سياسي بامتياز، وتعتبر من كأس العالم في دولة عربية إسلامية انطلاقتها لداخل المنطقة لتنفيذ أجندات كبرى، عجزت سابقًا عن تحقيقها بالوسائل القديمة، فقادها فكرها إلى تبني أفكار قابلة لتشطير المجتمعات، وتنفُذ من خلالها إلى صناعة انحراف طويل الأمد استغلالًا لحقبة سياسية مضطربة. ليس الهدف القضاء على الإسلام، فهم يعلمون فشلهم مجددًا، وإنما جعله إسلامًا بلا قيم وبلا أخلاق، إسلاما بالاسم المجرد من محتواه الذي نزل على سيدنا ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.

الدوحة تواجه لوحدها ببسالة المقاتل، وعقلانية الحكيم، موجة التغريب التي استهدفتها قبل انطلاقة كأس العالم، وبعيدها، وحتى الآن. والتغريب- وفق أحد التعريفات الشهيرة- هو تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية يرمي إلى صياغة حياة الأمم بأسلوب الغرب، والمتطرفون من أنصار هذا التيار وصلوا إلى الحكم في عواصم أوروبية عدة، وتمكنوا من الوصول إلى الاتحاد الأوروبي وفرضوا مثل هذه الأفكار بقوانين الاتحاد، وسنُدلل على ذلك. كما أصبح دورهم توظيف السياسة لخدمة تيار التغريب، وقد بدأ دور بعضهم في الدوحة كدور المهربين، فشهدنا وزيرة الداخلية الألمانية تخبئ شعار المثليين أثناء دخولها لملعب كرة القدم أثناء مباراة منتخب بلادها مع اليابان، وفي المدرجات تضعه على يدها اليمنى في استفزاز للجغرافيا الإسلامية كلها، فكيف لو اخترق مسؤول عربي قوانين دولة أوروبية؟

وبعد مونديال الدوحة، سيستهدف التغريب منطقة الخليج بأكملها؛ حيث سيعمل تيار التغريب بمؤسساته السياسية والمالية، على نقل أفكاره الثورية ضد الفطرة السوية إلى المنطقة بعد ما تمكن من إقرارها ضمن منظومته التشريعية، كحقوق للمثليين، ومنها الزواج من بعضهم، بعدما نجحوا في نقل الإلحاد والنسوية إليها، وأصبح الآن لها أنصار ومؤيدون- وإن كانوا محدودين- لكنهم منزعجين جدًا، ويمكن أن يؤثروا في فئة الشباب لضعف تكوينهم التربوي والتعليمي، ولعدة قضايا أخرى مثل البطالة والمخدرات؛ لذلك فالدوحة ستكون مجرد محطة أخفقوا فيها كثيرًا، وارتدت عليهم سلبًا بعد إثارة الرأي العام في الخليج.

ويتداخل المبدأ مع الاستهداف السياسي، فإذا كانوا يريدون المثلية منهجًا في حياتهم، فهذا شأنهم، لكن لماذا يفرضونه على الغير، وبالذات داخل منطقتنا؟ هنا الاستهداف السياسي الذي وراؤه النيل من قيمنا وأخلاقنا الإسلامية، فحقوق المثليين والمثليات ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسيًا في الاتحاد الأوروبي محمية ومكفولة بموجب معاهدات وقوانين الاتحاد الأوروبي. ويُعد النشاط الجنسي المثلي قانونيًا في جميع الدول الأعضاء، كما إن التمييز بحق الأفراد على أساس توجههم الجنسي محظور في مجال التوظيف منذ عام 2000.

مجددًا هذا شأنهم الداخلي، فلا يفرضوه على الشعوب الأخرى، وعملية الفرض متنوعة، دبلوماسية وسياسية ومالية، فقد تم إقامة مؤسسات للمثليين ضمن مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ووجهت سفارات دول الاتحاد الأوروبي لدعم مثل تلكم الأفكار ماليًا ودبلوماسيًا، وتُخصَص للسفارات موازنات من الاتحاد الأوروبي، وكل الاحتمالات تشير إلى أن تجربة الغرب في الدوحة ستتمدد إلى بقية الدول الخليجية من خلال الأفواج السياحية، كما ستنشط سفاراتها لدعم أو صناعة حالات شاذة محلية في كل دولة من خلال قوة دبلوماسيتها، وقوة المال المخصصة لها، مقابل ضعف برامج التأسيس والتأطير التربوي والتعليمي في المنطقة، والانفتاح غير المُقيَّد على الآخر المختلف معه فكريًا وأيديولوجيًا وحتى سياسيًا، وتفقير بعض المجتمعات بسبب سياسات مالية وقانونية جديدة، وهنا مكمن الخطورة؛ فالجيل الخليجي الجديد يُسلَّم الآن للتغريب بصورة مخيفة.

لذلك.. لا بُد من الإسراع في إعادة النظر في بعض سياسات وقوانين وقرارات سنتي الأزمة النفطية، وبالذات بعد أن أصبح يمتلك الآن فوائض مالية ضخمة، بعد أن عادت أسعار النفط للارتفاع وسط توقعات باستمرارها على مدى طويل، وكذلك التعجيل بسن تشريعات جديدة رادعة تطمئن الشعوب على حماية الدولة لثوابتها المقدسة، عوضًا من أن تجد نفسها مُلزمة بالدفاع عنها؛ لأن إيمانها سيقودها الى ذلك، فلن تقبل انهيار منظومتها القيمية والأخلاقية في وضح النهار، بعد ما تشاهد المجتمعات تغرق في موجة مظلمة، والدخول في انحراف طويل تعلم بإيمانها مخاطره على الفرد والجماعة والدولة في الدنيا والآخرة.