ماجد المرهون
كانت البدايات مع الصفحات الأولى لسبعينيات القرن الماضي؛ حيث المرحلة أقرب للفقيرة من ناحية التنوع وتعدد الخيارات على مختلف الأصعدة قياسًا باليوم فيما عدا عددٍ واحد لمجلة العربي الكويتية لا نعلم من أين جاءت حفظناها عن ظهر قلب، وكانت وصمة الغرابة هي أبسط ما نُلزمه كل جديد علينا بدايةً بسريان الكهرباء في "مصباح التنجستن" الصغير الذي سينافس فانوس الزيت الهادئ وشعلة الغاز المزعجة قبل ركنهما إلى زوايا التراث، ومرورًا بأنوار الشارع وأعجوبة تغير ألوان جلودنا ليلًا تحتها، ثم الطريق الأسود المريب ذي الرائحة النفاذة والذي يُعبَّد الآن فيستبد بنا القلق، ونحن نرقب دخانه المتصاعد على مرمى حجر، وقريع عصرهِ بيننا هو من يستطيع الوقوف والركض ثم التمرغ على صفيحه الساخن بعد مغادرة العمال الملثمين ساحة المعركة ليلقى فرسان بجدتها الملطخون ببقع القار جزاءهم القاسي عند عودتهم إلى منازلهم.
بعد الاستحمام بماء البئر في ساحة البيت المفتوحة وتمازج آثار العقاب وبقايا الزفت الأسود في لوحةٍ سريالية مع غروب الشمس وعودة الماشية إلى حظيرتها في نفس البيت، نبدأ بحلب الأغنام حتى نستمتع بالجلسة المسائية مع الكعك الثخين وعلى غليان الحليب بإلقاء الأحجار متقدة الحرارة فيه ولنستكمل بعد ذلك ما تبقى من واجباتٍ مدرسيةٍ على ضوء مصباحٍ مريض واستعدادًا لصباحٍ جديد، وها قد حان السبت سريعًا في شح الموارد بعد وجبة فطورٍ متواضعٍ وقليلًا من الحليب ومائة بيسة للفسحة لنجد أنفسنا نُدفع سيرًا على الأقدام دفعًا إلى المدرسة التي يخيل لنا أنها بعيدةٌ جدًا آنذاك وهي ليست كذلك.
من هنا ومع الفصل الأول لصفحات السبعين بدأ الحس الوطني بالتشكل التدريجي، مع طابور الصباح وتحية العلم والسلام السلطاني، ثم الإذاعة المدرسية فالانصراف العسكري إلى الصفوف على نغماتٍ من مصر والأردن، وبما أنَّ تلك المرحلة التاريخية كانت مشحونة بمشاعر القومية العربية والصراعات بين العروبة وبقايا الاشتراكية المندحرة وتأصيل أفكار الوحدة، فإن المعلمين قد لعبوا إبانها دورًا محوريًا في ترسيخ مبادئ الوطنية وتعميق مشاعر حب الوطن، فضلًا عن الفوارق التي بدأنا نشعر بها ونشاهدها ونلمسها ونحن نقلب الصفحات الأخيرة لذلك العقد الاستثنائي من الزمن مع وصول جهاز التلفزيون وما حيك حوله من قصصٍ طريفةٍ لنفتح نافذةً جديدةً على أغرب ما يمكن معايشته والذي بدا ضربًا من ضروب خرافةٍ لم يخطر على البال وجودها، ونحن نستشرف الثمانينيات التي غيرت العالم أجمع ولم نعد كما كنَّا منعزلين عنه.
بتنا نترقب خطابات السلطان قابوس ومشاعر الولاء تكبر فينا يومًا بعد يوم كما تكبر المدرسة وصفوفها وعدد الطلاب ومارشات الطوابير على موسيقى عام الشبيبة، ويزداد فينا حس الانتماء كما يزداد حولنا عدد البيوت والشوارع ووسائل النقل وقد كففنا عن التلويح بأيدينا للطائرات في السماء، ومؤشراتٍ لنقلات نوعية جلية الظهور على كل شيء تقريبًا وبشكل متسارع جدًا مع واقع الصفحات الأولى لعقد الثمانينيات إلى منتصفها، حتى أنَّ الأفكار والأحلام طالها التغيير كما تغير البيت القديم إلى آخرٍ جديد في مكان ليس عنه ببعيد، وأصبح الخيار متاحًا للذهاب إلى المدرسة سيرًا أو في السيارة مع ازدياد المصروف اليومي الذي اتخذ وتيرةً شبه ثابتةً بدون انقطاع.
لا شك أن المستقرئ للمتغيرات في عقد الثمانينيات سيجد ما بين سطورها وصفحاتها أحداثًا لم تتولد فجأةً أو بمحض الصدفة وإنما بُنيت على فترةٍ سبقها تفكيرٌ وتحضير فيه من الصبر والعناء الكثير والتخطيط مع العمل في وقتٍ قياسي قصير، فما بين السبعين إلى نهاية الثمانين حدثت طفرة نوعية في أقل من 15 عامًا؛ حيث لازالت عقولنا الطريةُ تستذكر بئر البيت القديم وصنابير المياه العامة الموزعة في المناطق والمصباح الصغير في غرفة واحدةٍ سقفها من الخشب المغطى بالطين وصور إعلانات الأجهزة الإلكترونية في مجلة العربي مع ما نحن عليه الآن من تغيير جذري على مشارف مرحلة الثانوية العامة ونتائج الاختبارات عبر الإذاعة، مع بشارات لكلياتٍ جديدةٍ في عدة محافظات يتوجها خبر افتتاح أول جامعة، والتفكير لما بعد ذلك كالحصول على رخصة قيادة السيارة ثم الانخراط في عالم الأعمال وحياةً أسرية جديدة؛ والخطابات السلطانية تأتي في موعدها وتسايرنا جنبًا إلى جنب مؤججةً فينا دوافع الحماس الوطني إلى أقصاها ومحفزةً على العمل والاجتهاد والحفاظ على مكتسباتنا وتطويرها في السطور المتبقية لآخر صفحة من تسعينيات القرن الماضي لننهي فصل ذلك الجيل المعجون بكل المتناقضات والغرائب قبل الشروع في الفصل الثاني مع الألفية الجديدة.
قد لا يُعِير الكثير منَّا اهتمامًا بما قبل السبعين وما واجهه آباؤنا في سبيل توفير العيش الكريم لنا، ومن غير المستغرب أن لا يعير أبناؤنا أهمية كبيرةً بحقبة جيلنا التي لا يعرفون عنها إلا هتاماتٍ قليلة ولا قدرة لديهم على استحضارها تخيلًا باستثناء إبداء تعاطفهم أحيانًا حيال بعض الصعاب التي لم تكن كذلك بالنسبة لنا إذا ما استبعدنا عوامل المقارنة بين الماضي والحاضر، فهم لايشاهدون قناة تلفزيونية يتيمةً عبر بثٍ ارضيٍ يتأثر بتقلبات الطقس؛ بل مئات القنوات عبر شاشة مسطحةٍ ومتنقلة يتفاضلون في مستويات جودتها، ولا ينتظرون نتائج الثانوية عبر المذياع في وجلٍ وإجفال وإنما تصلهم على هواتفهم في لمسةٍ حساسة، ويشربون المياه المعلبة قليلة الصوديوم والحليب المبستر والقهوة منزوعة الكافيين ويعانون صعوبات شبكة الجوال والامتعاض المصاحب لخللٍ في الألياف البصرية وضعف تبريد مكيف المدرسة والسيارة والبيت وعدم انضباط مواعيدهم الناتج عن زحمة السير وأجهزة ضبط السرعة، وسيأتي عليهم يومٌ يحدثون فيه أبنائهم عن تلكم الصعاب التي واجهها الجيل الأول من القرن الحادي والعشرين وأجزم أن لن يبالي بها الأبناء فهي لا تعنيهم إلا مع القليل من ردات الفعل التمثيلية والتعاطف الزائف، ليعودوا إلى مشكلة لعبتهم الإلكترونية التي تأخر تنزيلها أكثر من 3 ثوانٍ عبر الشبكة الضوئية للجيل الخامس؛ فأعود إلى المخزن بعد أن صم أذني صيحات تشجيعهم لكرة القدم باحثًا عن شهادة الصف الأول الابتدائي والفانوس القديم لأعيد تكريمهما في زاوية المجلس.