أحسن القصص

نور بنت محمد الشحرية

إلى كل حزين ومبتلى لقد اصطفاك الله كما أصطفى أنبياءه ورسله، ميَّزك ليزيدك أجرا لتعلو به درجات بالآخرة وتجبر بالدنيا وتعوض خيرًا.

نزلت سورة يوسف في مكة قبل الهجرة، نزلت كاملة بين عام الحزن وبيعة العقبة الأولى، وصفها الله تعالى بأنها "أحسن القصص"، وهو ما يصفها به المختصون باللغة والأدب بالذات أدب القصة، نزلت لتصبرالرسول وصحبه وتهون عليهم ما هم به من ضيق واستضعاف، نزلت مبشرة بالفرج بعد الكرب.

مئة وإحدى عشرة آية في عدة صفحات، تحمل إعجازا قرآنيا بليغا، ما في تلك الآيات من قصص وعبر ومواعظ و(التقاطات) ومشاعر، لا يكفيه كتاب، وكل آية من آياتها تصف شعورا أو قيمة ويستفاد منها حكمة وعظة وتفتح نوافذ من نور لكل حزين ومتألم، والقرآن هو كتاب كل زمان والمشاعر الإنسانية هي ذاتها لكل البشر على وجه الأرض وعلى مر الأزمنة، فكانت قصة النبي يوسف بلسمًا لكل روح ودواء لكل مجروح.

ففي السنة العاشرة من البعثة فك كفار قريش الحصار عن بني هاشم وبني عبد المطلب، الحصار الذي دام لثلاث سنوات متتالية في شعب أبي طالب، عانوا فيه أشد المعاناة حتى أنهم أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع، بعدها بعدة أشهر فقد المصطفى أحب اثنين إلى قلبه، فقد التي (رزق حبها) كما قال عنها زوجته السيدة خديجة بنت خويلد، وفقد سنده وظهره عمه أبا طالب وبموته تجرأ سفهاء قريش على الرسول اعتداء وتسفيها وتكذيبا وقد قال عليه السلام في ذلك: (ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب).

كان عاماً حزيناً مليئا بالفقد المؤلم، والإهانة والاستخفاف بالمسلمين، والدعوة مهددة من قبل قريش، وفي خضم تلك الأحداث والحزن الذي يمر بالرسول وصحبه، نزلت سورة يوسف لتخفف عنهم وتسرد عليه ألطاف الله في أقداره وأن ما يجده الإنسان من شر فيما يحصل له ما هو إلا فاتحة خير وسببا لتغيير الحال إلى حال أفضل.

ومثلما تسببت قريش بأذية المسلمين والرسول وهم من أقرب الناس إليهم، كذلك فعل إخوة يوسف به.

بطل الرواية نبي وابن النبي يعقوب عليهما السلام، إخوة يوسف لم يرحموا ضعفه وصغر سنه ولم يشفقوا على أبيهم من ألم فقده، قرر الإخوة قتل يوسف والخلاص منه وكل ذنبه تفضيل أباه له، وأحنهم قلباً رق لحاله وطلب منهم أن يلقوه في البئر، وما أشد وقع كلمة يلقى على القلب، إذا تخيلنا أن يقوم أحد ما بإلقاء أخيه الصغير بنفسه في بئر عميق مظلم مُخيف.

من البئر بدأ أول الابتلاءات للنبيين يوسف ويعقوب، يوسف التقطه بعض المارة من البئر وبيع، وقدر له أن يكون في قصر عزيز مصر، وقد رتب الله أقداره بأن لا يرزق العزيز بأبناء ليعيش يوسف في القصر ويكرم ولا يُهان، ويعقوب مستمر في بكائه، كبر الصغير المنعم في القصر ليكون شابا جميلا تقيا، ويبتلى وللمرة الثانية كانت مشاعر الحب السبب، فقد شغف حب يوسف قلب امرأة العزيز وكادت له شرا حتى سأل الله السجن مخافة أن يفتن فيزل، واستجاب الله له، في السجن ما جزع وما وجل، أخذ يدعو لله وهو في سجنه الذي اختاره بنفسه، لم يكن حصارا مفروضا عليه، بل كان اختيارا ليفر بدينه، لنتعلم ونعلم أنَّه ربما خلف كل إنسان قصص وليست قصة، وأن الابتلاء يعم الجميع، المحسن والمسيء، ولكن المحسن ينجو ويغير الله له حاله إلى حال لم يكن حتى يحلم به.

ومن السجن يصل يوسف لقصر الملك كونه يجيد تفسير الأحلام، فسر يوسف حلم الملك حول البقرات السمان والعجاف، ويجعل الملك يوسف من خاصته ويقول له :(إنك اليوم لدينا مكين أمين ) و يأتمنه على خزائن مصر، ولأن مسار تحول حال يوسف لم يكتمل بعد، ولأن شيخا كبيرا يلح على الله كثيرا أن يجمعه بأبنه، قدم إخوة يوسف إلى مصر طلبا للمؤونة، لم يعرف الإخوة يوسف وعرفهم، واتهم يوسف أخاهم الأصغر بالسرقة ليبقيه عنده، ماذا كان رد الإخوة (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) وما فعلها يوسف قط ولا فعلها أخوهم، ولكن يوسف عليه السلام كما يصفه الله تعالى: (فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم وقال أنتم شر مكانا) وهي دروس قرآنية في العلاقات الإنسانية وما يشوبها من كدر وكيفية التعامل معها.

عاد الأبناء إلى والدهم وأخبروه أن أخاهم سرق مكيال الملك، ويعيد عليهم والدهم ذات الرد المحزن المبكي (فصبر جميل) بث شكواه لله وبكى إلى أن ابيضت عيناه، وسرعان ما تأتيه البشرى بقميص يوسف، ويرتد يعقوب بصيرا من القميص الذي ألقي عليه، وليس لأن القميص علاجا للعمى، ولكنها معجزة اختصت بالنبيين مكافأة على صبرهما وثقتهما بالله ويقينهما بأن الخير بيد الله.

وتتحقق الرؤية بذهاب الجميع إلى مصر، والديه، وإخوته بعد أن عفا عنهم النبي يوسف -عليه السلام- ويرفع والديه على العرش ويسجدا له مع أحد عشر أخا، تلك الرؤية التي رآها قبل أن يلقى في البئر حينما قال: (يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لي ساجدين) وأمره أبوه أن يخفي أمر تلك الرؤية عن إخوته.

وتكتمل المواساة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقصة يوسف في آخر السورة، بالثبات على ما هم فيه، وأن الله منجيهم لا محالة وأن الفرج آت، وأعظم خير يرزق المؤمن أن يموت مُسلمًا.

هذا ما يستفاد من الدروس والعبر، معرفة أنك لست لوحدك فيما تمر به، وأن تقلبات الزمان هكذا هي فوق الجميع، لم يسلم من الأذى أحد، وأن كل شيء إلى نهاية، من لم يرَ لنفسه سبيلا للخلاص ولا طريقا لما يتمنى، يعلل نفسه بأنه ليس مخلدا وأن الخلاص آتٍ لا محالة، يحرص فقط على الصبر بقدر المستطاع ويتمسك بأجر الصابرين ليشفع له حيث الخلود.

تعليق عبر الفيس بوك